الثلاثاء، 28 أبريل 2015

القياس في اصول الفقة منقول عن اية الله جعفر السبحاني بواسطة حسين الذبحاوي

القياس لغة و اصطلاحاً

القياس في اللّغة هو التسوية، يقال: قاس هذا بهذا، أي سوّى بينهما. قال علي - عليه السّلام - : «لا يُقاس بآل محمّد - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - من هذه الاَُمّة أحد» (1) أي لا يسوّى بهم أحد.
وفي الاصطلاح استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصّ، عن حكم واقعة ورد فيها نصّ لتساويهما في علّة الحكم، مناطه وملاكه.
وربّما يعرّف بتعاريف أُخر:
1. القياس: عبارة عن إثبات حكم الاَصل في الفرع لاشتراكهما في علّة الحكم. (2)
2. القياس: تحصيل مثل حكم الاَصل في الفرع لاشتباههما في علّة الحكم في ظنّ المجتهد، وهو لاَبي الحسين البصري. (3)

1. نهج البلاغة: الخطبة 3 .
2. الغزالي: شفاء الغليل: 18.
3. سراج الدين الاَرموي: التحصيل من المحصول: 2|156.

(201)
3. القياس: إثبات حكم معلوم لآخر لاشتباهها في علّة الحكم عند المثبت.(1)
وقد نقل الاَرموي في التحصيل تعريفاً عن القاضي الباقلاني واستشكل عليه، ومن أراد الاطّلاع فليرجع إلى المصدر.(2)
وقد نقل محمد الخضري تعاريف أُخر للقياس عن البيضاوي و صدر الشريعة وابن الحاجب و ابن الهمام وناقشها. (3)

الثاني: أركان القياس

إنّ أركان القياس أربعة وهي:
1. الاَصل: وهو المقيس عليه.
2. الفــرع: وهو المقيس.
3. الحكـم: وهو ما يحكم به على الثاني.
4. العلّـــة: وهو الوصف الجامع بين المقيس و المقيس عليه، ويكون هو السبب للقياس. (4)
فلنفرض أنّ الشارع قال: الخمر حرام ووقفنا على أنّ المناط للحكم كونه مسكراً، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ والفُقّاع فيحكم عليها

1. المصدر السابق. و قد عرّفه الغزالي أيضاً في المنخول: 324 بنفس ما عرّفه القاضي الباقلاني، كما عرّفه بنفس التعريف أبو الفتح البغدادي في الوصول إلى الاَُصول :2|209.
2. المصدر السابق. و قد عرّفه الغزالي أيضاً في المنخول: 324 بنفس ما عرّفه القاضي الباقلاني، كما عرّفه بنفس التعريف أبو الفتح البغدادي في الوصول إلى الاَُصول :2|209.
3. محمد الخضري: أُصول الفقه: 289.
4. وقد ذكر الغزالي ركناً خامساً وهو: «طريق معرفة كون الوصف الجامع علّة للحكم» لاحظ شفاء الغليل: 22.

(202)
بالحرمة، لاشتراكها في الجهة الجامعة، والاَركان الاَربعة معلومة واضحة.
أمّا شروط القياس، فتنقسم إلى: شروط في الاَصل، وشروط في الفرع، وشروط في العلّة:
أمّا شروط الاَصل، فهي:
1. أن يكون الاَصل حكماً شرعياً عملياً، فالقياس الفقهي لا يكون إلاّ في الاَحكام العملية، لاَنّ هذه هي موضوع الفقه بشكل عام.
2. أن يكون الحكم قابلاً لاَن يُدرك العقل سببَ شرعيته، أو يومىَ النص إلى سبب شرعيته كتحريم الخمر و الميسر وأكل الميتة (1) وبهذا الشرط لا يصحُّ القياس في الاَحكام التعبّدية لاَنّ أساسه معرفة علّة الحكم ولا طريق لمعرفتها في الاَحكام التعبّدية، كمناسك الحجّ، بخلاف التوصّلية فيجري فيها القياس عند القائل به، لاَنّه يمكن للعقل البشري أن يدرك علّتها ولو إدراكاً ظنّياً.
3. أن لا يكون الاَصل معدولاً به عن القياس واستثناءً منه، ولذلك لا يمكن قياس شيء آخر على هذا المستثنى من القياس، لاَنّ حكم الاَصل عندئذٍ على خلاف القاعدة فيقتصر عليه.
4. أن لا يكون الحكم الذي جاء به الاَصل ثبت بدليل خاص، كشهادة خزيمة إذ جعل النبيّ شهادته بشهادة اثنين، وكتزويج النبيّ أكثر من أربعة (2)
ولعلّ الشرط الثالث يغني عن الشرط الرابع، وذلك لاَنّ الحكم الثابت في

1. وسيوافيك في المستقبل أنّ القياس عند تنصيص الشارع بالعلّة خارج عن محطّ البحث على أنّه ليس بقياس واقعاً بل عمل بالضابطة الكلّية التي أملاها الشارع.
2. شفاء الغليل: 635ـ642، وقد ذكر شروطاً ثمانية اقتصرنا بالمهم منها، الاَرموي؛ التحصيل من المحصول: 2|246؛ محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 218ـ 220.

(203)
الموردين على خلاف القاعدة فلا يقاس على ما خرج عن الضابطة بدليل استثنائي أمر آخر.
وأمّا شروط الفرع، فهي:
1. أن يكون الفرع غير منصوص على حكمه، إذ لا قياس في موضع النص.
2. أن تتحقّق العلّة في الفرع بأن تكون مساوية في تحقّقها بين الفرع و الاَصل، ووجه الاشتراط واضح. (1)

وأمّا شروط العلّة، فهي:

1. أن تكون وصفاً ظاهراً، و هذه كالصغر فإنّه علّة لثبوت الولاية المالية.
2. أن تكون منضبطاً أي لا يختلف باختلاف الاَشخاص، ولا باختلاف الاَحوال، ولا باختلاف البيئات بحيث يكون محدود المعنى في كلّ ما يتحقّق فيه كالسكر في تحريم الخمر.
3. أن تقوم سمة مناسبة أو ملائمة بين الحكم والوصف الذي اعتبر علّة، فالقتل علّة مناسبة لمنع الميراث.
4. أن يكون الوصف علّة متعدّية غير مقصورة على موضع الحكم، كالسفر مقصور على الصيام من حيث إنّه يرخّص في الاِفطار والقضاء في أيام أُخر ، فلا يصلح أن يكون علّة لعدم أداء الصلاة والقضاء في أيام أُخر.
5. أن لا يكون الوصف قد قام الدليل على عدم اعتباره، وذلك إذا كان مخالفاً لنصّ دينيّ فلا تكون صالحة للتعدّي، كالمصلحة التي رآها القاضي

1. شفاء الغليل: 673ـ 675، وقد ذكر للفرع شروطاً خمسة اقتصرنا على المهم منها؛ ومثله محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 220ـ 221.

(204)
الاَندلسي الذي اعتبر الكفّارة من الملك صيام ستّين يوماً لا عتق رقبة، لاَنّ تلك المصلحة (عدم ردع الملك إلاّ بإلزام صوم ستين يوماً) التي رآها القاضي مرفوضة بحكم الشارع. (1)

الثالث: الفرق بين علّة الحكم وحكمته

(2)
إنّ مناط الحكم وعلّته غير حكمته، والفرق بينهما هو أنّه لو كان الحكم دائراً مدار العلّة وجوداً وعدماً فهو علّة الحكم ومناطه، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الحكم أوسع ممّا تُصوّر أنّه علّة للحكم فهو من حِكَم الحُكم ومصالحه لا من مناطاته، فمثلاً: الاِنجاب وتكوين الاَُسرة من فوائد النكاح ومصالحه، و مع ذلك ليس هو مداراً للحكم ومناطه، بشهادة أنّه يجوز تزويج المرأة العقيم، واليائسة، ومن لا يطلب ولداً بالعزل، إلى غير ذلك من أقسام النكاح الجائز التي تفقد المصلحة المزبورة، وهذا يدلّ على أنّ ما زعمناه من أنّ «الاِنجاب» مدار للحكم ليس كذلك.
ولنذكر مثالاً آخر:
قال سبحانه:"وَالْمُطَلَّقاتُ يَترَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْن ما خَلَقَ اللّهُ في أَرحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُوَمِنَّ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ" . (3)
ففرض على المطلّقة التربّص، ثلاثة قروء بغية استعلام حالها من حيث الحمل وعدمه، فلو كانت حاملاً، فعدّتها أن تضع حملها، قال سبحانه:"وَأُولاتُ الاََحْمالِ أَجَلَهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" (4)

1. محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 223ـ 225.
2. وللغزالي بحث مسهب في هذا الصدد، لاحظ شفاء الغليل: 612.
3. البقرة: 228.
4. الطلاق: 4.

(205)
ولكن استعلام حال المطلقة ليس ضابطاً للحكم وملاكاً له، بل من حِكَمِه بشهادة أنّه إذا غاب الزوج عن الزوجة مدّة سنة فطلَّقها، يجب عليها التربّص مع العلم بعدم حملها منه.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ بعض ما ورد في الشرع بصورة العلّة ربّما يكون حكمة ومصلحة.
قال أبو زهرة: الفارق بين العلّة والحكمة، هو أنَّ الحكمة غير منضبطة بمعنى أنّها وصف مناسب للحكم يتحقّق في أكثر الاَحوال، وأمّا العلّة فهي وصف ظاهر منضبط محدود أقامه الشارع إمارة على الحكم. (1)

الرابع: قياس الاَولوية

قياس الاَولوية خارج عن مصب النزاع و يسمّى أيضاً بمفهوم الموافقة ، وفحوى الخطاب، وذلك لاَنّ المقصود منه فهم ما لا نصّفيه ممّا نصّ عليه بالاَولوية، كقوله سبحانه:"فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ" (2) الدالّبالاَولوية على النهي عن الشتم والضرب و نحوهما، وليس هذا من باب القياس، بل عملاً بالظاهر، والقياس يتوقّف على بذل الجهد في الوقوف على المناط والملاك، ثمّ التسوية بين الفرع والاَصل بحكم المشابهة، مع أنّا لا نحتاج في فهم حكم ما لا نصّ في المقام سوى إلى فهم الخطاب الوارد في قوله: "فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ".
وبالجملة: إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلاّ على فهم النصّ بلا حاجة إلى اجتهاد، فهو عمل بالظاهر. بخلاف ما إذا كان متوقّفاً وراء فهم النصّ إلى بذل جهد والوقوف على المناط ثمّ التسوية ثمّ الحكم، قال سبحانه:"فَمَنْ يَعْمَلْ

1. لاحظ أُصول الفقه لمحمد أبو زهرة: 223 و 233.
2. الاِسراء: 23.

(206)
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ" (1) فلا نحتاج في فهم حكم الخير الكثير إلاّ إلى فهم مدلول الآية.

الخامس: المتشابهان غير المتماثلين

إنّ مصبّ القياس هو الاَمران المتشابهان لا الاَمران المتماثلان، فكم فرق بين المتماثلين والمتشابهين، فمثلاً إذا أثبتنا بالتجربة أنّ الفلز يتمدّد بالحرارة، فيكون ذلك معياراً كلّياً لكلّ فلز مماثل وأنّه يخضع لنفس الحكم، وهذا خارج عن مصبّ البحث، إنّما الكلام في القياس بين أمرين متغايرين نوعاً متشابهين في جهة خاصة، فهل يصحّ لنا تسرية حكم الاَصل إلى الفرع بذريعة وجود التشابه بينهما أو لا ؟ فمثلاً شرب الخمر حرام بالنصّ، والفقّاع نوع آخر، لاَنّ الاَوّل مأخوذ من العنب، والثاني مأخوذ من الشعير، فهما نوعان، فهل يصحّ لنا أن نُسري حكم الخمر إلى الفقّاع لتساويهما في صفة الاِسكار؟
وكثيراً ما نرى أنّ الباحثين لا يميّزون بين المتماثلين والمتشابهين، إذ مرجع الاَوّل غالباً إلى التجربة التي هي دليل عقليّ قطعيّ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم فيه ظنّي لجهة المناسبة والمشابهة إلاّ أن ينتهي إلى مرحلة القطع.
وقد أوضحنا ذلك في بحوثنا حول نظرية المعرفة.

السادس: تقسيمه إلى منصوص العلّة ومستنبطها

ينقسم القياس إلى منصوص العلّة ومستنبطها، والمراد من الاَوّل ما نصّالشارع على علّة الحكم، كما إذا قال: لا تشرب الخمر لاَنّه مسكر، كما أنّ المراد من الثاني ما إذا قام الفقيه بتحصيلها بالجهد والفكر.

1. الزلزلة: 7.

(207)
ثمّ إنّ مستنبط العلّة على قسمين، فتارة يصل الفقيه إلى حدّ القطع بأنّ ما استخرجه، علّة الحكم واقعاً، ومناطه؛ وأُخرى لا يصل إلاّ إلى حدّ الظنّ بأنّه مناطه وعلّته، والاَوّل يسمى بتنقيح المناط (1) وهو خارج عن محطّ البحث و إن كان تحصيله أمراً مشكلاً ، ولكنّه لو حصل لكان حجّة، لاَنّ حجّية القطع ذاتية ولا يصحّ النهي عن العمل بالقطع إذا كان طريقاً إلى الحكم.

السابع: حكم القياس منصوص العلّة

إنّ العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنّة لا بالقياس، لاَنّ الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل، نسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة وهذا خارج عن مصبّ البحث.
روى محمد بن إسماعيل، عن الاِمام الرضا - عليه السّلام - أنّه قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه، أو طعمه، فيُنزح حتى يذهب الريح، ويطيب طعمه، لاَنّ له مادّة». (2)
فإنّ قوله: «لاَنّ له مادّة» تعليل لقوله: «لا يفسده شيء» ليكون حجّة في غير ماء البئر، فيشمل التعليل بعمومه ماء البئر، وماء الحمام، و العيون، وحنفية الخزّان وغيرها، فلا ينجس الماء إذا كان له مادة قوية.
وعندئذٍ يكون العمل بالملاك المنصوص في المقيس عملاً بظاهر السنّة لا بالقياس، وأمّا المجتهد فيطبّق الضابطة التي حدّدها الشارع على جميع الموارد

1. وهذا هو المصطلح عند الشيعة، وأمّا السنّة فعندهم مصطلحات ثلاثة، هي:
1. تنقيح المناط 2 . تخريج المناط 3. تحقيق المناط، و بينها فروق يسيرة، لاحظ أُصول الفقه لمحمد أبو زهرة: 229.
2. الوسائل: الجزء 1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6. 

(208)
دفعة، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الاَصل إلى الفرع، بل موضوع الحكم هي العلّة، والفروع بأجمعها داخلة تحته.
وإن شئت قلت: هناك فرق بين استنباط الحكم عن طريق القياس، وبين استنباط الحكم عن طريق ضابطة كلّية تصدق على مواردها، وقد جعلها الشارع هو الموضوع حقيقة.
ففي الاَوّل، أي استنباط الحكم من القياس، يتحمّل المجتهد جهداً في تخريج المناط، ثمّ يجعل المنصوص أصلاً والآخر فرعاً، وأمّا إذا كانت العلّة منصوصة فيكفي فيها فهم النصّ لغة بلا حاجة إلى الاجتهاد، ولا إلى تخريج المناط، فيكون النصّ دالاً على الحكمين بدلالة واحدة.
فقوله سبحانه: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي المَحيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ" (1)
دلّ على وجوب الاعتزال في المحيض وعلّله بكونه أذًى، فلو استكشفنا بأنّ التعليل مناط للحكم وملاكه، فيُتمسّك به في كلّ مورد دلّعلى أنّ المسّ أذًى، كالنفاس، و النزيف، وغير ذلك، وليس هذا من باب القياس، بل من باب تطبيق النصّ على موارده.

الثامن: في طرق استنباط العلّة

قد عرفت انّ القياس في مورد لم يرد نصّ من الشارع على مناط الحكم، وإلاّ يكون العمل بالتعليل عملاً بالنص، حيث إنّ الشارع أعطى ضابطة كلّية تشمل جميع الموارد مرّة واحدة ويسير الفقيه على ضوئها.

1. البقرة: 222.

(209)
ثمّ إنّ القائلين بالقياس ذكروا لاقتناص العلّة واستنباطها طُرقاً مختلفة غير مجدية غالباً إلاّ القليل منها، ولاَجل ذلك نشير إلى كل عنوان فيها ونترك التفصيل إلى المصادر، فقالوا:
إنّ ما يعرف به علّية الوصف أُمور:
1. النصّ: التصريح بالعلّية. (1)
2. الاِيماء: كما قيل بعد قول السائل أفطرت في شهر رمضان: كفّر، فيعلم أنّ الاِفطار هو العلّة. (2)
3. المناسبة: و يراد المناسبة بين الحكم والموضوع، كحفظ النفس في تشريع القصاص وحفظ المال في تشريع الضمان.
4. الموَثّر: وهو كون هذا الوصف موَثراً في جنس الحكم دون غيره، كقولهم: الاَخ من الاَبوين مقدّم في الميراث فيقدّم في النكاح.
5. الشبه: وهو الوصف المناسب للحكم لذاته، كتعليل الحرمة بالسكر. (3)
6. الدوران: وهو ثبوت الحكم عند ثبوت الوصف وانتفاوَه عند انتفائه، كدوران حرمة المعتصر من العنب مع كونه مسكراً، فيحرم عند الاِسكار و يزول عند عدمه. (4)
7. السبر والتقسيم: والسبر في اللغة هو الامتحان، وتقريره: أن يحصر الاَوصاف التي توجد في واقعة الحكم وتصلح لاَن تكون العلّة واحداً منها،

1. قد عرفت انّه خارج عن محلّالنزاع.
2. وهذا أيضاً خارج عن محلّ النزاع، لاَنّ الاِيماء إحدى الدلالات المعتبرة.
3. والمثال فرضي لورود النصّبالتعليل.
4. لاحظ في تفصيل هذه الطرق شفاء الغليل: 627، فقد أطنب فيها الكلام؛ والتحصيل من المحصول: 2|185ـ 208.

(210)
ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الاَوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة ويُستبقي ما يصحّ أن تكون علّة، وبهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصّل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة.
فمثلاً ورد النصّ بتحريم شرب الخمر ولم يدلّ نصّ على علّة الحكم، فالمجتهد يردّد العلّة بين كونه من العنب، أو كونه سائلاً، أو كونه ذا لون خاص، أو كونه مسكراً، ويستبعد كلّ واحدة من العلل إلاّ الاَخيرة فيحكم بأنّها علّة، ثمّ يقيس كلّ مسكر عليه.
ثمّ إنّ التقسيم إذا كان دائراً بين النفي و الاِثبات يفيد اليقين، كقولك: العدد إمّا زوج أو فرد، والحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق. وأمّا إذا كان بشكل التقسيم والسبر أي ملاحظة كلّ وصف خاصّ وصلاحيّته للحكم، فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم، وما يستبعده يطرحه، فمثل هذا لا يكون دليلاً قطعياً بل ظنّياً وهذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس.
قال الشيخ عبد الوهاب خلاّف: وخلاصة هذا المسلك أنّ المجتهد، عليه أن يبحث في الاَوصاف الموجودة في الاَصل، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علّة منها، و يستبقي ما هو العلّة حسبَ رجحان ظنّه، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقيقُ شروط العلّة بحيث لا يستبقى إلاّ وصفاً منضبطاً متعدّياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار، وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين، لاَنّ منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى المناسب وصفاً آخر.
فالحنفيّة رأوا المناسب في تعليل التحريم في الاَموال الربوية، القدر مع اتّحاد الجنس، والشافعية رأوه الطعم مع اتّحاد الجنس، و المالكية رأوه القوت و الادّخار مع اتّحاد الجنس.

(211)
والحنفية رأوا المناسب في تعليل الولاية على البكر الصغيرة، الصغر، والشافعية رأوه البكارة (1)

استنباط العلّة عمل ظنّي

إنّ القياس دليل ظنّي يظهر وجهه ممّا ذكره «عبد الوهاب خلاّف» من اختلاف العقول في تشخيص المناط، و نزيد عليه بأنّ هناك احتمالات أُخرى تُخلّ بعملية المناط بالبيان التالي:
أوّلاً: احتمال أن يكون الحكم في الاَصل معلّلاً عند اللّه بعلّة أُخرى غير ما ظنّه القايس.
وهذا أمر غير بعيد، قال سبحانه:"وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَليلاً" (2)
فالاِنسان لم يزل في عالم الحس تنكشف له أخطاوَه فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة، فكيف بملاكات الاَحكام ومناطاتها المستورة على العقل إلاّ في موارد جزئية كالاِسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟! وأمّا غيرها ممّا يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظنّ شيئاً.
قال ابن حزم: و إن كانت العلّة، غير منصوص عليها فمن أيّطريق تُعرف و لم يوجد من الشارع نصّيبيّـن طريق تعرفها؟ و ترك هذا من غير دليل يعرِّف العلّة ينتهي إلى أحد أمرين: إمّا أنّ القياس ليس أصلاً معتبراً، وإمّا أنّه أصل عند اللّه معتبر و لكن أصل لا بيان له و ذلك يوَدي إلى التلبيس، وتعالى اللّه عن ذلك علوّاً

1. مصادر التشريع الاِسلامي: 65.
2. الاِسراء: 85.

(212)
كبيراً، فلم يبق إلاّ نفي القياس. (1)
ثانياً: لو افترضنا أنّ المقيس أصاب في أصل التعليل، ولكن من أين يعلم أنّها تمام العلّة، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع ولم يصل القايس إليه؟
ثالثاً: احتمال أن يكون القايس قد أضاف شيئاً أجنبيّاً إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه .
رابعاً: احتمال أن تكون في الاَصل خصوصية في ثبوت الحكم، فمثلاً لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في إفساد البيع، ولكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه إذا كان المهر فيه مجهولاً، فالعلّة ، هي الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر و مع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.
نعم ربّما يتّفق للاَوحدي بعد الوقوف على الاَشباه والنظائر أن يقطع بأنّ المناط هو الوجه الموجود بينها، ولكنّه نادر لا يتّفق إلاّ في موارد خاصّة، فأين هو من القياس الذي هو مصدر التشريع بعد الكتاب والسنّة عند أكثر أهل السنّة ؟
وقد ورد في رواية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) النهي عن الخوض في تنقيح المناط، لقصور عقول الناس عن الاِحاطة بهاو يشهد بذلك ما رواه أبان بن تغلب، عن الاِمام الصادق - عليه السّلام - يقول أبان:
قلت لاَبي عبد اللّه - عليه السّلام - : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟
قال: «عشر من الاِبل».

1. أبو زهرة: أُصول الفقه: 210 نقلاً عن الاِحكام.

(213)
قلت: قطع اثنتين؟
قال: «عشرون».
قلت: قطع ثلاثاً؟
قال: «ثلاثون».
قلت: قطع أربعاً؟
قال: «عشرون».
قلت: سبحان اللّه، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إن كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان.
فقال:«مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين». (1)
وليس الاِمام الصادق - عليه السّلام - متفرداً في نقل هذا الحكم، بل هذا ممّا أطبق عليه الفقهاء، و إليك ما يعرّف موقفهم في هذا المقام:
قال الشيخ الطوسي: المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث ديتها في الاَُروش المقدّرة، فإذا بلغتها فعلى النصف. وبه قال عمر بن الخطاب، وسعيد بن المسيّب، و الزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال ربيعة: تعاقله ما لم يزد على ثلث الدية أرش الجائفة والمأمومة، فإذا زاد فعلى النصف.

1. الوسائل: الجزء 19، الباب 44 من أبواب ديات الاَعضاء، الحديث 1.

(214)
وربيعة جعلها كالرجل في الجائفة، وجعلها على النصف فيما زاد عليها. وبه قال الشافعي في القديم.
وقال الحسن البصري: تعاقله ما لم تبلغ نصف الدية أرش اليد والرجل، فإذا بلغتها فعلى النصف.
وقال الشافعي في الجديد: لا تعاقله في شيء منها بحال، بل معه على النصف فيما قلّ أو كثر، في أنملة الرجل ثلاثة أبعرة وثلث، وفي أنملتها نصف هذا بعير وثلثان، وكذلك فيما زاد على هذا.
ورووا ذلك عن علي - عليه السّلام - ، وذهب إليه الليث بن سعد من أهل مصر، وبه قال أهل الكوفة: ابن أبي ليلى، و ابن شبرمة، و الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وهو قول عبيد اللّه بن الحسن العنبري.
وقال قوم: تعاقله ما لم تبلغ نصف عشر الدية أرش السن والموضحة، فإذا بلغتها فعلى النصف.ذهب إليه ابن مسعود، و شريح.
وقال قوم: تعاقله ما لم تبلغ عشر أو نصف عشر الدية أرش المنقلة، فإذا بلغتها فعلى النصف. ذهب إليه زيد بن ثابت، و سليمان بن يسار.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أنّ النبي - عليه السّلام - قال: «المرأة تعاقِلُ الرجل إلى ثلث ديتها».
وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ فقال: عشر، قلت: ففي اصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون. قلت له: لمّا عظمت مصيبتها قلّ عقلها. قال: هكذا السنّة.
قوله: هكذا السنّة، دالّ على أنّه أراد سنّة النبي - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - وإجماع الصحابة

(215)
والتابعين. (1)
إنّ هذه الرواية وأمثالها التي اتّفق فقهاء كلا الفريقين على صحّة مضمونها اجمالاً وإن اختلفوا في التفاصيل تصدّ الفقيه عن الخوض في المناط، ولو خاضه وأحرز المناط لم يقطع بأنّالحكم دائر مداره، بل غاية ما في الباب يظنّبه، وليس الظنّ ـ ما لم يدعمه الدليل ـ مغنياً عن الحقّ.

التاسع: الآراء في حجّية القياس

ذهبت الشيعة الاِمامية والظاهرية من أهل السنّة إلى بطلان القياس في مستنبط العلّة، إلاّ إذا وصل الفقيه إلى حدّ القطع بأنّ ما استنبطه هي العلّة الواقعية للحكم وقد سُمّي عندهم بتنقيح المناط، وأمّا غيرهم فخلاصة مذاهبهم لا يتجاوز عن ثلاثة:
1. أنّه حيث وجد النصّ فلا عمل للقياس مطلقاً، سواء أكانت الظنّية في السند أم كانت في الدلالة لاَنّه لا قياس في موضع النصّ.
2. أنّ القياس قد تكون له معارضة للاَدلّة الظنّية دون الاَدلّة القطعية.
3. أنّ القياس الصحيح لا يمكن أن يكون معارضاً لنصّ شرعيّ قط. (2)
ومن كلماتهم: إنّ نظير الحقّ حقّ، و نظير الباطل باطل فلا يجوز لاَحد إنكار القياس، لاَنّه تشبيه الاَُمور والتمثيل عليها.
و قال ابن قيم الجوزية في هذا المعنى أيضاً: مدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، ولو جاز التفرقة بين المتماثلين

1. الخلاف: 5|255، كتاب الديات، المسألة 64.
2. محمد أبو زهرة: أُصول الفقه: 337.

(216)
لخرق الاستدلال وغلقت أبوابه.
وما ذكر من الكبرى حقّ لا غبار عليه، إنّما الكلام في الصغرى وأنّ ما زعمناه نظيراً، هل هو نظير له في الواقع أو بينهما فارق أو فوارق؟ فهذه هي النقطة الحسّاسة في المسألة، فالقائل بالقياس يتعامل مع ظنّه معاملة القطع، فلو دلَّ دليل قطعي على حجيّة ظنّه فهو، وإلاّ فلا يكون مغنياً عن الحق.

العاشر: إمكان العمل بالقياس ووقوعه

يقع الكلام في حجّية القياس في مقامين: فتارة في مقام الثبوت، وأُخرى في مقام الاِثبات، والمراد من الاَوّل كون التعبّد بالقياس أمراً ممكناً في مقابل كونه أمراً محالاً، كما أنّ المراد من الثاني وجود الدليل على وقوع التعبّد بالشرع بعد ثبوت إمكانه.
أمّا الاَوّل، فالتعبّد بالقياس كالتعبّد بسائر الظنون من الخبر الواحد والشهرة وقول اللغوي وغير ذلك من الاَدلّة الظنّية، أمر ممكن، لجواز أن يقتصر الشارع في امتثال أوامره ونواهيه على الاَدلّة الظنّية ولا يطلب من المكلّف الامتثال بالاَدلّة القطعية لتسهيل الاَمر على المكلّفين، وقد بسط علماوَنا، الكلام في هذا الموضوع في علم الاَُصول عند تطرّقهم لمبحث إمكان التعبّد بالظنّ وعدم الاقتصار على القطع.
ويعجبني أن أنقل كلمة لبعض علمائنا السابقين لمناسبتها المقام:
يقول ابن زهرة الحلبي (511 ـ 585): ويجوز من جهة العقل التعبّد بالقياس في الشرعيات، لاَنّه يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفة الاَحكام الشرعية ودليلاً عليها، ألا ترى أنّه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلاً بين أن ينصّ الشارع على تحريم جميع المسكر، وبين أن ينصّ على تحريم الخمر بعينها، وينصّ على

(217)
أنّ العلّة في هذا التحريم، الشدّة، ولا فرق بين أن ينصّ على العلّة، وبين أن يدلّ بغير النصّ على أنّ تحريم الخمر لشدّتها أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظن عندها أنّ تحريم الخمر لهذه العلّة مع إيجابه القياس علينا في هذه الوجوه كلّها، لاَنّ كلّ طريق منها يوصل إلى العلم بتحريم النبيذ المسكر، ومَنْ منع مِن جواز ورود العبارة بأحدها كمَنْ منع مِن جواز ورودها بالباقي. (1)
وأمّا الكلام في المقام الثاني، فيتوقّف على بيان الضابطة الكلّية في العمل بالظنّ إذ ببيانها يعلم موقف الشريعة في العمل به و سيوافيك أنّ موقفها هو حرمة العمل بالظنّ إلاّ إذا دلّ الدليل القطعي على جواز العمل، فما لم يكن هناك دليل قاطع فالحقّ مع النافي، وإليك بيانه:

ما هي الضابطة في العمل بالظن؟

لا شكّ أنّالقياس دليل عقليّ ظنّي، وليس دليلاً قطعيّاً. فقبل نقل أدلّة المثبتين لابدّ من تنقيح مقتضى القاعدة الاَوّلية في العمل بالظنّ.
فلو دلّ الدليل على حرمة العمل بالظنّ، يجب على القائل بالقياس إقامة الدليل على تخصيص تلك القاعدة وإخراج العمل بالقياس عنها بالدليل، وإلاّ فيكفي للنافي التمسّك بالقاعدة.
والمراد من القاعدة الاَوّلية هو مقتضى الكتاب والسنّة والعقل في العمل بالظنّ بما هوهو إذا لم يُدْعَم من جانب الشرع بالخصوص، فهل هو أمر محرّم أو جائز؟ ولا شكّ أنّه إذا دعمه الشارع وجوّز العمل به في الشريعة فلا غبار في جوازه، إنّما الكلام فيما إذا لم يثبت ترخيص من قبل الشارع ولا منع، فهل هو جائز أو لا ؟

1. ابن زهرة الحلبي: غنية النزوع: 386، قسم الا َُصولين الطبعة الحديثة. 

(218)
أقول: إنّ معنى حجّية الظنّ هو التنجيز إذا أصاب الواقع والتعذير إذا أخطأ.
وبعبارة أُخرى: إنّ معنى حجّية الظنّ هو صحّة إسناد موَدّاه إلى اللّه سبحانه، والاستناد إليه في مقام العمل.
فإذا كان هذا معنى الحجّية فلا شكّ أنّه مترتّب على العلم بحجّية الشيء بأن يقوم دليل قطعيّ على حجّية الظنّ، من كتاب أو سنّة، فعند ذلك يُوصف الظنّ بالتنجيز أو التعذير، ويصحّ إسناد موَدّاه إلى اللّه سبحانه، كما يصحّ الاستناد إليه في مقام الامتثال والعمل.
وأمّا إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّية الظنّ، بل صار مظنون الحجّية أو محتملها، فلا يترتّب عليه الاَثران الاَوّلان: التنجيزُ والتعذيرُ، لاَنّ العقل إنّما يحكم بتنجيز الواقع إذا كان هناك بيان من الشارع وإلاّ فيستقلّ بقبح العقاب بلا بيان، و المفروض أنّه لم يثبت كون الظنّبياناً للحكم الشرعي إذ لم يصل بيان من الشارع على حجّية الظنّ، كما أنّه لا يعدّ المكلّف العامل بالظنّ معذوراً إذا لم يدعمه دليل قطعي.
فخرجنا بتلك النتيجة: أنّ الحجية بمعنى التنجيز، والتعذير من آثار معلوم الحجّية لا مظنونها ولا محتملها. هذه هي الضابطة في مطلق الظنّ، و منها يظهر حكم القياس وذلك لاَنّ المفروض وجود الشكّ في حجّية القياس حيث إنَّ البحث الآن فيما لم يدعمه دليل ولا نُهيَ عنه، ومعه يكون الاحتجاج به غير صحيح إلاّ إذا دلّ الدليل القطعي على حجيّته.
كما أنّإسناد مضمونه إلى الشارع و الاستناد إليه في مقام العمل من آثار ما علم كونه حجّة، وإلاّ يكون الاِسناد والاستناد بدعة، وتشريعاً محرّماً، حيث إنّ الاستناد إلى مشكوك الحجّية في مقام العمل وإسناد موَدّاه إلى الشارع تشريع

(219)
عملي وقولي دلّت على حرمته الاَدلّة الاَربعة.
أمّا الكتاب فيكفي قوله سبحانه:"قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُل ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ" (1) حيث دلّ على أنّ إسناد ما لم يأذن به اللّه إليه افتراء. فالآية خطاب لمشركي مكّة حيث قسموا ما أحلّه اللّه إلى قسمين: حرام كالبحيرة والسائبة، وحلال كغيرهما، ولفظة «ما» في قوله :"ما أَنْزَلَ اللّهُ" في موضع نصبٍ، مفعول للفعل المتقدّم، و مفاد الآية أنّ كلّما لم يأذن به اللّه فاسناده إلى اللّه و الاستناد إليه في مقام العمل، افتراء على اللّه، والمفروض أنّ الظنّ بما هو ظنّ لم يرد فيه إذن بالعمل به.
نعم لو ورد الاِذن لخرج عن البدعة لكن الكلام في المقام الاَوّل.
ويدلّ عليه قوله سبحانه: "وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأَمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ" (2)
ومفاد الآية أنّ التقوّل على اللّه بما لا يعلم كونه من اللّه أمر محرّم سواء أمر بها في الواقع أم لم يأمر.
ويكفي في السنّة ما ورد عن أئمّة أهل البيت بسند صحيح عن باقر العِلْم (عليه السلام) : من أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدًى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بها. (3)
وعلى ضوء ذلك فتكفي لنفاة القياس هذه الضابطة الكلّية في العمل بالظنّ، قياساً كان أو غيره. ولا يلزم عليهم تجشّم الدليل على بطلان القياس بعد ثبوت هذه القاعدة.

1. يونس: 59.
2. الاَعراف: 28.
3. الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(220)
نعم، يلزم على القائل بالقياس إقامة الدليل على ترخيص الشارع بالعمل به حتى يخرج عن تحت القاعدة خروجاً موضوعياً لا حكمياً، فإنّ القاعدة (حرمة العمل بالظنّ) في الظنّ الذي لم يرخّص الشارع العمل به فإذا رخّص يخرج عنه موضوعياً لا حكمياً.
وبذلك يعلم أنّ بعض ما ذكره الرازي في حرمة العمل بالقياس من أدلّة تلك الضابطة.
فاستدلّ من الكتاب بقوله: "وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ" وقوله سبحانه: "وَلا تَقْفُما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" وقوله سبحانه: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ " . (1)
وجه الاستدلال: أنّ القياس الشرعي لابدّ وأن يكون بتعليل الحكم في الاَصل وثبوت تلك العلّة في الفرع ظنّياً، ولو وجب العمل بالقياس لصدق على ذلك الظن، أنّه أغنى من الحقّ شيئاً وذلك يناقض عموم النفي.
ثمّ استدلّ من السنّة بقوله - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - : تعمل هذه الاَُمّة برهة بالكتاب وبرهة بالسنّة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا.
كما استدلّ بإجماع العترة، فقال: إنّا نعلم بالضرورة أنّ مذهب أهل البيت كالباقر والصادق (عليهما السلام) إنكار القياس، وقد تقدّم أنّ إجماع العترة والصحابة حجّة.(2)
كان الاَولى على الرازي دعم الضابطة الكلّية، من غير نظر إلى القياس وغيره، كما فعلنا لاِمكان المناقشة في صحّة بعض ما استدلّ به كالروايات.

1. الآيات: البقرة: 169؛ الاِسراء: 49؛ المائدة: 40.
2. الرازي : المحصول: 2|290ـ 292.

(221)
وحصيلة الكلام: إنّ الضابطة هي حرمة العمل بالظنّ قياساً كان أو غيره، إلاّ إذا قام دليل مفيد للقطع واليقين بأنّ الشارع رخّص العمل به كما رخّص في العمل بقول الثقة وغيره.
وبما ذكرنا يعلم أنّ القضاء في جواز العمل بالقياس في مقام الاِثبات يتوقّف على دراسة أدلّة المثبتين وهل هي بمكانة نرفع بها اليد عن الضابطة الكلّية أو لا ؟
إذا عرفت هذه الضابطة فلنذكر أدلّة القائلين بالقيـاس ـ لما عرفت من استغناء المخالف عن إقامة الدليل ـ حيث استدلّوا بالكتاب والسنّة، والاِجماع والعقل، وإليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر.

(222)

أدلّة القائلين بحجّية القياس

1. الاستدلال بالكتاب

استدلّ القائلون بحجّية القياس بآيات نتناولها بالبحث واحدة تلو الاَُخرى.

1. آية الاعتبار

قال سبحانه في حادثة بني النضير: "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لاََوَّلِ الحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْحَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُوَْمِنينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولي الاََبْصارُ " (1)
والحشر هو الاجتماع قال سبحانه: "وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى" (2) وهو كناية عن اللقاء بين اليهود و المسلمين.
وجه الاستدلال: أنّ اللّه سبحانه بعدما قصّ ما كان من بني النضير الذين كفروا، وما حاق بهم من حيث لم يحتسبوا، قال: "فَاعْتَبِرُوا يا أُولي الاََبْصار" أي فَقِسُوا أنفسَكم بهم، لاَنّكم أُناسٌ مثلهم إن فعلتم مثلَ فعلهم حاق بكم مثل ما حاق

1. الحشر: 2. 
2. طه: 59.

(223)
بهم، من غير فرق بين تفسير الاعتبار بالعبور والمرور، أو فُسِّرَ بالاتّعاظ، فهو تقرير، لبيان أنّ سنّة اللّه في ما جرى على بني النضير وغيرهم واحد. (1)
يلاحظ على الاستدلال: بأنّ الآية بصدد بيان سنّة اللّه في الظالمين، سواء فسّر الاعتبار بالتجاوز أو بالاتّعاظ، وأنّ إجلاء بني النضير من قلاعهم وتخريبهم بيوتَهم بأيديهم وأيدي الموَمنين كان جزاءً لاَعمالهم الاِجرامية، وأنّ اللّه تبارك و تعالى يعذّب الكافر والمنافق والظالم بأنحاء العذاب ولا يتركه، فليس هناك أصل متيقّن ولا فرع مشكوك حتى نستبين حكمَ الثاني من الاَوّل بواسطة المشابهة، بل كل ذلك فرض على مدلول الآية، وكم لها من نظائر في القرآن الكريم، قال سبحانه: "فَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبينَ* هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدًى وَمَوعِظَةٌ لِلْمُتَّقينَ" (2)
هل تجد في نفسك أنّ الآية بصدد إضفاء الحجّية على القياس؟ أو أنّها لبيان سنّة اللّه في المكذّبين؟ وقال سبحانه:"وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاََرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحويلاً" (3)
قال سبحانه: "فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظّالِمينَ بِبَعيدٍ" (4)
وأدلّ دليل على أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قول: ( أُولي الاََبصار " فقلت : فاعتبروا يا أهل

1. أبو بكر الاَرموي: التحصيل من المحصول: 2|162؛ فخر الدين الرازي : المحصول في علم الاَُصول: 2|247.
2. آل عمران: 137ـ 138.
3. الاِسراء: 76 ـ 77.
4. هود: 82 ـ 83.

(224)
القياس، لعاد الكلام هزلاً غير منسجم.
باللّه عليك أيّها القارىَ العزيز أيّ صلة لاَمثال هذه الآيات بمسألة القياس، والتشبّث بهذه الآية وأمثالها أشبه بتشبّث الغريق بالطحلب.

2. آية الردّ إلى اللّه والرسول

قوله سبحانه: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الاََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُوَْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" (1)
وجه الاستدلال: أنّ اللّه سبحانه أمر الموَمنين ـ إن تنازعوا واختلفوا في شيء ليس للّه ولا لرسوله ولا لاَولي الاَمر منهم فيه حكم ـ أن يردُّوه إلى اللّه وإلى الرسول، وردّه أي إرجاعه إلى اللّه وإلى الرسول بإطلاقه يشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما، فردّه إلى قواعد الشرع الكلية ردّ إلى اللّه ورسوله، وردّ ما لا نصّ فيه إلى ما فيه النصّ، والحكم عليه بحكم النصّ لتساوي الواقعتين في العلّة التي بُني عليها الحكم، هو ردّ المتنازع فيه إلى اللّه ورسوله.
قال أبو زهرة:وليس الردّ إلى اللّه وإلى الرسول إلاّ بتعرّف الاَمارات الدالّة منهما على ما يرميان إليه، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها وذلك هو القياس.(2)
أقول: إنّ الردّ إلى اللّه ورسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم وسوَالهم عن حكم الواقعة قال سبحانه:"فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْكُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (3)

1. النساء: 59.
2. أُصول الفقه: 207. 
3. الاَنبياء: 7.

(225)
أو إرجاعها إلى الضابطة الكلّية التي ذكرها الرسول، فمثلاً إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد وعدمه، فنرجع إلى الضابطة التي ذكرها الرسول في باب الشروط وقال: إنّ المسلمين عند شروطهم، إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً. (1)
وأمّا غير ذلك فليس رجوعاً إليهم، فإنّ قياس ما لا نصّ فيه على ما نصّ فيه لاَجل تساوي الواقعتين في شيء أو في أشياء نحتمل أن لا تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم، فليس رداً إلى اللّه ورسوله، بل هو بذل جهد من جانب السائل لئن يفهم حكم المشكوك بطريق من الطرق التي لم يثبت أنّ اللّه أذن به وليس مثل ذلك ردّاً إلى اللّه ورسوله، خصوصاً إنّ العلّة، ليست منصوصة بل مستنبطة بطريق من الطرق التي لا نذعن بإصابتها، وبذلك يظهر ضعف ما استند إليه الشيخ أبو زهرة وذلك لاَنّ الاهتداء بتعليل الاَحكام إلى نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله، لا ما إذا قام العقل باستخراج العلّة بالسبر والتقسيم أو بغيرهما من الطرق.

3. آية الاستنباط

قال سبحانه:"وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الاََمْنِ أَوِ الخَوفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الاََمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَولا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَليلاً" (2)
وقد استدلّ بها السرخسي في أُصوله، وقال: والاستنباط استخراج المعنى من المنصوص بالرأي، وقيل: المراد بأُولي الاَمر: أُمراء السرايا، وقيل: العلماء وهو

1. الوسائل: الجزء 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 5.
2. النساء: 83.

(226)
الاَظهر، فإنّ أُمراء السرايا إنّما يستنبطونه بالرأي إذا كانوا علماء. (1)
وقد تفرّد السرخسي في الاستدلال بها، والمشهور هو الاستدلال بالآية السابقة، غير أنّ تفسير أُولي الاَمر بالعلماء تفسير على خلاف الظاهر، وإلاّ لقال: «أُولي العلم منهم»، كما قال سبحانه:"شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّهُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بالْقِسْطِ" (2)
يقول العلاّمة الطباطبائي: ومورد قوله: "وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الاََمْنِ أَوِ الْخَوفِ" هي الاَخبار التي لها جذور سياسية ترتبط بأطراف شيء ربّما أفضى قبولها، أو ردّها، أو إهمالها بما فيها من المفاسد والمضار الاجتماعية، إلى ما لا يمكن أن يستصلح بأيّ مصلح آخر، أو يبطل مساعي أُمّة في طريق سعادتها، أو يذهب بسوَددهم و يضرب بالذلّة و المسكنة والقتل و الاَسر عليهم، وأيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر اللّه سبحانه بإرجاعها وردّها إليهم. (3)
وأمّا من هم «أُولي الاَمر» في زمن نزول الآية، فلسنا بصدد بيانه، وعلى أيّ حال لا صلة للآية بالقياس أبداً، بل هدف الآية الاِشارة إلى أنّ واجب المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه من أمن أو خوف أو سلامة و خلل، هو عدم إذاعة ما سمعوه، وردّه إلى أُولي الاَمر الذين يستخرجون صحّة أو سقم ما وصل إليهم من الخبر بفطنتهم وتجاربهم، وهل تجويز الاستنباط في المسائل السياسيّة بالقرائن يكون دليلاً على جواز استنباط الاَحكام الشرعيّة بالقياس؟

1. أُصول الفقه:2|128.
2. آل عمران: 18.
3. الميزان: 5|23، طبع بيروت.

(227)

4. آية النشأة الاَُولى

قوله سبحانه: "وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" (1)
فإنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الاَُولى من قوله: "مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ" فأُجيب بالقياس، فإنّ اللّه سبحانه قاس مادّة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أوّل مرّة، لاِقناع الجاحدين بأنّ من قدر على خلق الشيء وإنشائه أوّل مرّة قادر على أن يعيده بل هذا أهون عليه.
يلاحظ عليه: إنّ اللّه سبحانه لم يدخل من باب القياس، وهو أجل من أن يقيس شيئاً على شيء، وإنّما دخل من باب البرهان، فأشار إلى سعة قدرته ووجود الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجوده، وبين القدرة على إحيائها من جديد، بل القدرة على الثاني أولى، فإذا ثبتت الملازمة بين القدرتين والمفروض أنّ الملزوم وهي القدرة على إنشائها أوّل مرّة موجودة، فلابدّ أن يثبت اللازم، وهي القدرة على إحيائها وهي رميم، فأين هو من القياس؟!
ولو صحّت تسمية الاستدلال قياساً، فهو من باب القياس الاَولوي الذي فرغنا من كونه خارجاً عن القياس الفقهي، ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر بهذا البرهان، بل أشار إلى سعة قدرته بآية أُخرى بعدها وقال: "أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالاََرْضَبِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاّقُ العَلِيمُ) (2)
والآيات كسبيكة واحدة والهدف من ورائها تنبيه المخاطب على أنّ استبعاد

1. يس: 78 ـ 79.
2. يس: 81.

(228)
إحياء العظام الرميمة في غير محلّه، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه، وأمّا إذا وسعت قدرته كلَّ شيء بشهادة أنّه خلق الاِنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً، وخلق السماوات والاَرض وهي خلق أعظم من الاِنسان، لكان أقدر على معاد الاِنسان وإحياء عظامه الرميمة.
وليس كلّ استدلال عقلي قياساً.

5. آية جزاء الصيد

قال اللّه تعالى: "لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الكَعْبَةِ" (1)
قال الشافعي: فأمرهم بالمثْل، وجعل المثْل إلى عدلين يحكمان فيه فلمّا حُرِّم مأكولُالصيد عامّاً كانت لدوابّ الصيد أمثال على الاَبدان، فحكم مَنْ حكم من أصحاب رسول اللّه على ذلك فقضى في الضَّبع بكبش وفي الغزال بعنز، وفي الاَرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة. (2)
والعلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا، المثل بالبدن لا بالقيم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان، وفي الاَزمان وأحكامهم فيها واحدة.
والعلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن، ولكنّها كانت أقرب الاَشياء منه شبهاً فجعلت مثله، وهذا من القياس، يتقارب تقارب العنز والظبي،

1. المائدة: 95.
2. العناق ـ بفتح العين المهملة ـ : هي الاَُنثى من أولاد المعز ما لم يتمّ له سنة ،والجفرة: ما لم يبلغ أربعة أشهر وفصل عن أُمّه وأخذ في الرعي.

(229)
ويبعد قليلاً بعد الجفرة من اليربوع. (1)
يلاحظ عليه: أنّ حاصل مفاد الآية أنّه يشترط في الكفارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور، أو المماثلة في القيمة كما هو المنقول عن إبراهيم النخعي، وعلى أيّتقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الاَحكام الشرعية وكونه من مصادرها، لاَنّ أقصى ما يستفاد من الآية أنّ المحرم إذا قتل الصيد متعمّداً فجزاوَه هو ذبح ما يشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة، والبقرة في قتل الحمار الوحشي وهكذا، وهل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلاً على أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد، أو يقتصر بمورده ولا يصحّ التجاوز عن المورد إلاّ بالقول بالقياس غير الثابت إلاّ بهذه الآية، وهل هذا إلاّ دور واضح؟
أضف إلى ذلك أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للاَحكام الشرعية الكلّية، وأين هذا من كون التشابه معياراً في تشخيص مصداق الواجب على الصائد؟
إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء في ضمان المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي، حيث اقتصر في براءة الذمّة، بالمماثلة، في العين أو قيمتها.
ثمّ إنّه يظهر من الشيخ الطوسي أنّ وجه الاستدلال بالآية، هو أنّ طريق تشخيص المماثلة هو الظن. ويرد عليه أنّ الظنّ في مورد لا يكون دليلاً على اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

1. الشافعي: الرسالة: 491، ذكره في باب الاجتهاد ،وهو عنده مساوٍ للقياس كما مرّ.