الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019
مقتل الامام الحسين ع في كربلاء
فأن نهزم فهزّامون قدماً
أما الله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس حتي تدور بكم دور الرحي وتقلق بكم قلق المحور عهٌد عهده أليّ أبي عن جدي رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلم فأرجعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة ثم اقضوا أليّ ولا تُنظِرون أني توكلت علي الله ربي وربكم ما من دابه الاّ هو اخذ بناصيتها أن ربي علي صراط مستقيم ثم رفع يديه وقال : اللهم أحبس عنهم قطر السماء وأبعث عليهم سنين كسنيي يوُسف وسـلّط عليهم غلام ثقيفِ يسقيهم كأساً مصبّرهً فأنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكّلنا وأليك المصيروأستدعاهم ابن سعد فدُعي له وكان كارهاً لا يُحب أن يأتيه فقال أي عُمر أتزعمُ انك تقتلني ويوليك الدَعي بلاد الرَي وجرجان والله لا تتهنأ بذلك عهد معهود فأصنع ما أنت صانع فأنك لا تفرح بعدي بدنياً ولا آخرة وكأني برأسك علي قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضاَ بينهم فصرف بوجهه عنه مغضباً ولّما سمع الحُر بن يزيد الرياحي كلام أبي عبد الله الحسين وأستغاثته أقبل علي عمر بن سعد وقال له : أمقاتلٌ أنت هذا الرجل قال : أي والله قتالا ًأيسره ان تسقط فيه الرؤوس وتطيح ألايدي قال مالكم فيما عرضه عليكم من الخِصال فقال لو كان الامر ألّي لقبلت ولكن أميرك أبن زياد يأبي ذلك فتركه ووقف مع الناس وكان الي جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة : هل سقيت فرسك فقال لا قال هل تريد أن تسقيه فظّن قُرةً من ذلك أنه يريد الأعتزال ويكره أن يشاهده أحد فتركه فأخذ الحُر يدنو من الحسين بن علي قليلاً قليلاً فقال له ( المهاجر بن أوس) أتريد أن تحمل ؟ فسكت وأخذته الرعدة فأرتاب المهاجر من هذا الحال وقال له لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فما هذا الذي أراه منك فقال الحُر أني أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار والله لا أختارُ علي الجنة شيئاً ولو أُحرقت ثم ضَربَ جواده نحو الحسين بن علي مُنكساً برأسهِ حياءً من آل الرسول بما أتي أليهم وجعجع بهم في هذا المكان علي غير ماءٍ ولا كلا رافعاً صوته : اللهم أليك أُنيب فتُب علّي فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك يا أبا عبد الله أنّي تائبٌ فهل تري لي من توبة ألهنا ونحن نتوب أليك في هذا المقام الكريم فقال الحسين : نعم يتوب الله عليك فسّره قول أبي عبد الله وتيّقن الحياه ألابدية والنعيم الدائم ووضح له قول الهاتف لما خرج من الكوفة فحدّث الحسين بحديثهِ قال فيه لما خرجت من الكوفة نوديتُ أبشر يا حُر بالجنة فقلت ويلٌ للحُر يبّشر بالجنة وهو يسير الي حرب بن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم فقال له الحسين : لقد أصبت خيراً وأجراً ثم أستأذن الحسين في أن يكلّم القوم فأذن له فنادي بأعلي صوته يا أهل الكوفه لأمكم الأمل والعبر أدعوتم هذا العبد الصالح وجعلتم أنكم قاتلوا انفسكم دونه حتي أذا جائكم أخذتم بكرمه وأحطتم به من كل جانبِ فمنعتموه التّوجه الي بلاد الله العريضة حتي يأمن وأهل بيته وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وحلأتموه وصبيته ونسائه وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصاري والمجوس وتتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وهاهم قد صرعهم العطش بئسما خلقتم محمداً في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ فحملت عليه رّجالة ترميه بالنبل فتقهقر حتي وقف أمام الحسين أذ أن الحسين بن علي منع أصحابه وأهل بيته من أن يبدؤا القوم بقتال قط فلذلك تري ألاصحاب في كل مقام وعظم وأرشاد وتوجيه يرشقون بالسهام أو يحمل عليهم أحد تراهم يتراجعون الي ورائهم أمتثالاً لأمر إمامهم وسيدهم أبي عبد الله الحسين إذ أنه مايريد أن يبدأ كل أحد بقتالٍ أبدا وصاح الشمر بأعلي صوته أين بنو أختنا أين العباس وأخوته فأعرضوا عنه فقال الحسين أجيبوه ولو كان فاسقاً قالوا ما شأنك وما تريد قال يا بني أختي أنتم آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع الحسين وإلزموا طاعة أميري أمير الفاسق يزيد فقال العّباس له : لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمي بسهمٍ وقال أشهدوا لي عند ألامير بن زياد أني أوّل من رمي ثم رمي الناس فلم يبقي من أصحاب الحسين أحد إلا أصابه من سهامهم فقال عليه السلام لأصحابه قوموا رحمكم الله ألي الموت الذي لابد منه فأن هذه السهام رُسل القوم أليكم فحمل أصحابه حملة واحدة وأقتتلوا ساعةً فما جلت الغبره إلا عن خمسين صريعاً من أصحاب أبي عبد الله وخرج يسار مولي زياد وسالم مولي عبيد الله بن زياد فطلبا البراز فوثب حبيب وبُرير فلم يأذن لهما الحسين فقام عبد الله بن عُميرالكلبي من بني عليم او (عُليم) وكنيته ابو وهب وكان طويلاً شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين شريفاً في قومه شجاعاً مجرباً وقال : أحسبه للأقران قتّالاً فقالا له من أنت فأنتسب لهما فقالا لا نعرفك ليخرج الينا زهير أو حبيب أو بُرير وكان يسار قريباً منه فقال له يأبن الزانية أو بك رغبه عن مبارزتي ثم جدّ عليه بسيفه يضربه وبينا هو مشتغل به إذ شّد عليه سالم فصاح أصحابه قد رهقك العبد فلم يعبأ به فضربه سالم بالسيف فاتقاها عبد الله بيده اليسري فأطار أصابعها ومال عليه عبد الله فقتله وأقبل الي الحسين يرتجز وقد قتلهما وأخذت ام وهب زوجته عموداً وأقبلت نحوه تقول فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمدٍ فأراد أن يردها ألي الخيمة فلم تطاوعه وأخذت تجاذبهه ثوبه وتقول لن ادعك دون أن أموت معك فقال لها آلان كنتي تنهيني عن القتال وآلان جئتي تقاتلين معي قالت لا تلمني أن واعية الحسين كسرت قلبي فقال ما الذي سمعتي منه قالت سمعت بباب الخيمة ينادي (واا قلّت ناصرا) فنادي الحسين سيدي ابا عبد الله ردّها الي الخيمة فنادها الحسين جزيتم عن اهل بيت نبيكم خيرا أرجعي الي الخيمة فأنه ليس علي النساء قتال فرجعت ولما نظر من بقي من أصحاب الحسين الي كثرة من قُتل منهم أخذ الرجلان والثلاثة والأربعة يستأذنون الحسين في الذبّ عنه والدفع عن حرمه وكلٌ يحمي الآخر من كيد عدوه فخرج الجابريان وقاتلا في مكان واحد حتي قتلا وخرج الغفاريان فقالا للحسين : السلام عليك أبا عبد الله إنّا جئنا لنقتل بين يديك وندفع عنك فقال مرحباً بكما واستدناهما منه فدنوا وهما يبكيان قال ما يبكيكما يأبني أخي فوالله أني لأرجو أن تكونا بعد ساعةٍ قرير العين قالا جعلنا الله فداك ما علي أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن ننفعك فجزّاهما الحسين خيرا فقاتلا قريباً منه حتي قتلا وخرج (عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث ومجمع بن عبد الله العائذي) وشدّوا جميعاً علي أهل الكوفة فلما أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس وقطعوهم عن أصحابهم فندب أليهم الحسين أخاه العبّاس فأستنقذهم بسيفه وقد جرحوا بأجمعهم وفي أثناء الطريق أقترب منهم العدو فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتي قتلوا في مكان واحد ولمّا نظر الحسين الي كثرة من قتل من أصحابه قبض علي شيبته المقّدسه وقال أشتدّ غضب الله علي اليهود أذ جعلوا له ولداً وأشتدّ غضبه علي النصاري أذ جعلوه ثالث ثلاثة واشتّد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه واشتّد غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم أما والله لا اجيبهم الى شيء مما يريدون حتى القى الله وأنا مخضّب بدمي ثم صاح : أما من مغيث يغيثنا ! اما من ذابٍ يذبُّ عن حرم رسول الله فبكت النساء وكثر صراخهن وسمع الانصاريان سعد بن الحارث واخوه أبو الحتوف استنصار الحسين واستغاثته وكانا مع ابن سعد ولما إن سمعا بكاء عياله فمالا بسيفيهما على أعداء الحسين قاتلا حتى قُتلا وأخذ أصحاب الحسين بعد ان قل عددهم وبان النقص فيهم يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في اهل الكوفة فصاح عمرو بن الحجاج بأصحابه : أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرز اليهم احد منكم إلا قتلوه على قلتهم والسبب في ذلك أنهم كانوا يقاتلون عن عقيدةٍ وإيمانا وأولئك كانوا يقاتلون في سبيل الماده والطمع فقال عمرو بن الحجاج : لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم فقال عمر بن سعد : صدقت الرأي ما رأيت أرسل في الناس من يعزم عليهم ألا يبارزهم رجل منهم ولو خرجتم إليهم وحدانا لأتوا عليكم ثم حمل عمرو بن الحجاج على ميمنة الحسين فثبتوا له وجثوا على الركب وأشرعوا الرماح فلم تقدم الخيل فلما ذهبت الخيل لترجع رشقهم أصحاب الحسين بالنبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين ثم حمل عمرو بن الحجاج من نحو الفرات فاقتتلوا ساعة وفيها قاتل مسلم ابن عوسجة فشّد عليه مسلم بن عبد الله وعبد الله البجلي وثارت لشدة الجلاد غبرة شديدة وما انجلت الغبرة إلا ومسلم ابن عوسجة صريعاً وبه رمق فمشى اليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر
إني أنا الحر ومأوى الضيفي
لـنعم الحرُّ حرُ بني رياح صبور عند مشتبك الرماح
ولما فرغ الحسين من الصلاة قال لأصحابه : يا كرام هذه الجنة قد فتّحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم فحاموا عن دين الله ودين نبيه وذبّوا عن حرم الرسول فقالوا : نفوسنا لنفسك الفداء ودماؤنا لدمك الوقاء فوالله لا يصل اليك والى حرمك سوء وفينا عرق يضرب ووثبوا الي خيولهم فعقروها ولم يبقِ مع الحسين فارس إلاّ الضّحاك بن عبد الله المشرقي يقول : لّما رأيت خيل أصحابنا تعقر أقبلتُ بفرسي وأدخلتها فسطاطاً لأصحابنا واقتتلوا أشد القتال وكان كل من أراد الخروج ودّع الحسين بقوله : السلام عليك يا ابن رسول الله فيجيبه الحسين وعليك السلام ونحن خلفك ثم يقرأ (ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) وخرج أبو ثمامة الصائدي فقاتل حتى اُثخن بالجراح وكان مع عمر بن سعد ابن عم له يقال له قيس بن عبد الله بينهما عداوة فشّد عليه وقتله وخرج سلمان بن مضارب البجلي وكان ابن عم زهير فقاتل
أقـدم هديت هادياً مهديّاً فـاليوم القى جَدَّك النبيّا
فقال الحسين : وأنا القاهما على أثرك ، وفي حملاته يقول :
وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي شيخاًً كبيراً صحابياً رأى النبي وسمع حديثه وشهد معه بدراً وحنيناً ، فاستأذن الحسين وبرز شادّاً وسطه بالعمامة رافعاً حاجبيه بالعصابة ، ولما نظر اليه الحسين بهذه الهيئة بكى وقال : شكراً لله لك يا شيخ فقتل على كبر سنهِ ثمانية عشر رجلاً وقُتل وجاء عمرو بن جنادة الانصاري بعد أن قُتل أبوه وهو ابن إحدى عشرة سنة يستأذن الحسين هذا وقد أمرته أمه من قبل ذلك وقالت له : ولدي قم وأنصر ريحانة رسول الله بعد ما ألبسته لامة حربه فخرج يستأذن من الحسين بن علي فلما نظر إليه الحسين قال لأصحابه : هذا غلام قُتل أبوه في الحملة الأُولى ولعل أُمه تكره خروجه الي المعركه ردّوه الي الخيمة فأقبل الغلام يسعي نحو الحسين عجلاً خائفاً من أن يصّده أصحاب أبي عبد الله عن مراده وقصده فصاح : سيدي أبا عبد الله أن أمي هي التي ألبستني لامة حربي فأذن لي يا بن رسول الله حتي أرزق الشهادة بين يديك فجزّاه الأمام خيرا فبرز وهو يقول أميري حسينٌ ( أميري حسينٌ ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير علي ٌوفاطمةٌ والداه فهل تعلمون له من نظير له طلعةٌ مثل شمس الضحي له غرّةٌ مثل بدر المنير) فقاتل قتال الابطال فأحاط أعداء به من كل جانب أردوه الي الأرض صريعا فاحتزو رأسه ورموا به نحو الخيام فسعت الي رأسه أمه فمسحت الدم عنه وأخذته وضربت به رجلاً قريباً منها فمات وعادت الى المخيم فأخذت عموداً وقيل سيفاً وانشأت تقول : (أنا عجوز في النسا ضعيفة خاوية بالية نحيفة أضربكم بضربة عنيفة دون بني فاطمة الشريفة ) فردّها الحسين إلى الخيمة بعد أن اصابت بالعمود رجلين (وما رضي الحسين سلام الله عليه بأن تخرج امرأة من سائر نساء المسلمين امام الأعداء امام الرجال الأجانب فصونوا حلائلكم معاشر المسلمين كما تصونون ديناركم ودرهمكم) وقاتل الحجاج بن مسروق الجّعفي حتى خُضّب بالدماء فرجع الى الحسين يقول : ( اليوم القي جدك النبيا ثم أباك ذا الندي عليا ذاك الذي نعرفه الوصيا) فقال الحسين : وأنا القاهما على أثرك فرجع يقاتل حتى قُتل ولما اُثخن بالجراح سويد بن عمرو بن أبي المطاع سقط لوجهه وظُنَّ انه قُتل فلما قُتِلَ الحسين وسمعهم يقولون : قُتل الحسين أخرج سكينةً كانت معه فقاتل بها وتعطّبوا عليه فقتلوه وكان آخر من قتل من الأصحاب بعد الحسين عليه السلام ولما لم يبق مع الحسين إلا أهل بيته عزموا على ملاقاة الحتوف ببأس شديد وحفاظ مر ونفوس أبية واقبل بعضهم يودّع بعضاً واول من تقدم هو شبيه رسول الله علي ٌ الأكبر وكان شبيهاً برسول الله خلقاً وخُلقاً ومنطقاً فأحطن به النسوة وقلن أرحم غُربتنا فليس لنا طاقة علي فراقك فلم يأبي بكلامهن واستأذن أباه فبرز علي فرسٍ للحسين يسمي لاحقاً وهو يقول : (أنا علي بن الحسين بن علي نحن وبيت الله أولي بالنبي أضربكم بالسيف أحمي عن أبي ضربة غلامٍ هاشميٍ علوي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي) ولم يتمالك الحسين دون أن رفع شيبته المقدّسه نحو السماء وأرخي عينيه بالدموع وقال : اللهم أشهد علي هؤلاء القوم فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمّدٍ صلّي الله عليه وآله وسلّم وكنا إذ أشتقنا الي رؤيه نبيك نظرنا إليه اللهم امنعهم بركات الأرض وفرّقهم تفريقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضِ الولاة عنهم ابداً فأنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا وصاح ببن سعد : قطع الله رحِمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ثم تلا قوله تعالي :
فقتل جماعة بثلاث حملات ورماه يزيد بن الرقاد الجهني بسهم فاتقاه بيده فسمرها الى جبهته فما استطاع ان يزيلها عن جبهته فقال : اللهم انهم استقلّونا واستذلّونا فاقتلهم كما قتلونا وبينا هو على هذا إذ حمل عليه رجل برمحه فطعنه في قلبه ومات ولما قُتل عبد الله بن مسلم حمل آل أبي طالب حملة واحدة فصاح بهم الحسين عليه السلام : صبراً على الموت يا بني عمومتي والله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم فوقع فيهم عون بن عبد الله بن جعفر الطيار وامه العقيلة زينب واخوه محمد وامه الخوصاء وعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب واخوه جعفر ابن عقيل ومحمد بن مسلم بن عقيل وأصابت الحسن المثنى ثمانية عشر جراحة وقطعت يده اليمني ولم يُستشهد وخرج أبو بكر بن امير المؤمنين عليه السلام واسمه محمد وامه شرية قتله زحر بن بدر النخعي ثم خرج عبد الله بن عقيل فما زال يضرب فيهم حتى اُثخن بالجراح وسقط الى الارض فجاء اليه عثمان بن خالد التميمي فقتله وخرج أبو بكر بن الأمام الحسن عليه السلام وهو عبد الله الاكبر وامه ام ولد يقال لها رملة فقاتل حتى قُتل وخرج من بعده اخوه لامه وأبيه القاسم وهو غلام لم يبلغ الحُلم فلما نظر اليه الحسين عليه السلام اعتنقه وبكى اذن له فبرز كأن وجهه شقة قمر وبيده السيف وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله اليسرى وأنف ابن النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتفي في الميدان فوقف يشد شسع نعله وهو لا يزن الحرب الا بمثله غير مكترث بالجمع ولا مبال بالالوف وبينا هو على هذا إذ شد عليه عمرو بن سعد بن نفيل الازدي وضربه بالسيف علي رأسه ففلق هامته وصاح الغلام ياعماه وأمه واقفه بباب الخيمة تنظر إليه وهي مدهوشة فأتاه الحسين وضرب قاتله فاتقاه بالساعد فأطنها من المرفق فصاح صيحة عظيمة سمعها العسكر فحملت خيل ابن سعد لتستنقذه فأستقبلته بصدورها ووطأته فمات وانجلت الغبرة واذا الحسين قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين يقول : بعداً لقوم قتلوك خصمهم يوم القيامة جدّك ثم احتمله ورجلاه يخطان في الأرض فألقاه مع علياً الاكبر وقتلى حوله من أهل بيته ولما رأى العباس عليه السلام كثرة القتلى في أهله قال لأخوته من أمّه وأبيه عبد الله وعثمان وجعفر : تقدّموا يا بني أُمي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله والتفت الى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال : تقدم يا أخي حتى أراك قتيلا وأحتسبك فقاتلوا بين يدي أبي الفضل حتى قُتلوا بأجمعهم ولم يستطع العباس صبراً بعد قتل إخوته وأولاد عمه وأخيه وكان آخر من بقي مع الحسين فستأذنه قال : (ياأخي أنت صاحب لوائي ) قال العباس : قد ضاق صدري وأريد أن آخذ ثأري من هؤلاء المنافقين فقال الحسين : إذاً فأطلب لهؤلاء الأطفال قليلٌ من الماء فذهب العباس الى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار فلم ينفع ورجع الي الحسين يخُبره فسمع الأطفال ينادون العطش العطش فركب جواداً وأخذ الِقربة وقصد الفرات فأحاط به أربعة آلاف ورموه بالنبال فلم يأبي بجمعهم ولم ترعه كثرتهم فكشفهم عن المشرعة ودخل الماء واغترف منه ليشرب فتذّكر عطش الحسين فرمي الماء وقال :
( لا أرهب الموت اذا الموت زقا حتي اُواري في المصاليت لقي )
فكمن له زيد بن الرّقاد من وراء نخلةٍ وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فبراها وأخذ السيف بشماله وقال (والله إن قطعتم يميني إني أُحامي ابداً عن ديني ) فحافظوا عن دينكم ايها المسلمون وتمّسكوا به فأنه خير دينٍ ( وعن امامٍ صادقٍ اليقينِ نجل النبي الطاهر الامينِ) فكمن له حكيم بن الطفيل من وراءِ نخلة فضربه علي شماله فقطعها فضّم اللواء الي صدره وتكاثروا عليه وأتته السهام كالمطر فأصاب القربة سهم وأريق ماؤها وسهم أصاب صدره وسهم أصاب عينه وضربه رجل بالعمود على رأسه ونادي عليك مني السلام ابا عبد الله فأتاه الحسين ورأه مقطوع اليمين واليسار مُرتثاً بالجراحا انحني عليه وبكي بكاءً عاليا وقال : آلان انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمُت بي عدّوي ثم حمل عليه ذويد بن بثير ويقول : بنا اين تفرّون وقد فتتم عمودي فبينا امامنا جالس عند ابي الفضل واذا بأبي الفضل التفت فقال سيدي ما تريد أن تصنع قال أريد حملك الي المخيّم ( نادي ياخويه حسين خليني بمچاني
انا الحسين بن علي آليت أن لا أنثني
وأعياه نزف الدم فجلس على الارض ينوء برقبته فانتهى اليه في هذا الحال مالك بن النسر فشتمه ثم ضربه بالسيف على راسه وكان عليه برنس فامتلأ البُرنس دماً فقال الحسين : لا أكلت بيمينك ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين ثم ألقى البُرنس واعتم على القلنسوة قال هاني بن ثبت الحضرمي : اني لواقف عاشر عشرة لما صرع الحسين إذ نظرت الى غلامٍ من آل الحسين عليه ازار وقميص وفي اذنيه درتان وبيده عمود من تلك الأبنية وهو مذعور يتلفت يميناً وشمالا فأقبل رجل يركض حتى اذا دنا منه مال عن فرسه وعلاه بالسيف فقتله وذلك الغلام هو محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكانت امه تنظر اليه وهي مدهوشة ثم انهم لبثوا هُنيئةً وعادوا الى الحسين واحاطوا به وهو جالس على الأرض لا يستطيع النهوض فنظر عبد الله بن الحسن السبط وله احدى عشرة سنة الى عمه وقد أحدق به القوم فأقبل يشتد نحو عمه وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء الى عمه وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام : يا ابن الخبيثة أتضرب عمّي الحسين ؟ فغضب اللعين من كلامه فضرب الغلام بسيفه فاتقي الضربة بيده فأطنها الى الجلد فاذا هي معلقة فصاح الغلام : يا عماه لقد قطعوا يدي ونظر الي أمه في باب الخيمه فنادي يا أماه لقد قطعوا يميني فضّمه الحسين إليه فقال يا بن اخي اصبرعلي ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فان الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين ورفع يده قائلا : اللهم ان متعتهم الى حينٍ ففرقهم تفريقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا تُرِضِ الولاة عنهم ابداً فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا ورمي الغلام حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه وبقي الحسين مطروحاً
وتوجه نحو المخيم بذلك الصهيل فلما نظرن النساء الى الجواد مخزياً والسرج عليه ملويا خرجن من الخدور على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات وبعد العز مذللات والى مصرع الحسين مبادرات
سيتم وضع روابط دروس الحوزة العلميه
الجمعة، 21 يونيو 2019
الامر عند الاصوليين الشيخ اية الله عبد الكريم الحائري
وبملاحظة النصوص الشرعيّة الواردة في القرآن الكريم وجدناها تنقسم إلى:
1- فئة استعملت فيها الكلمة إخبارا يشير إلى تشريع قد صدر بصيغته الخاصّة به، وليس بكلمة (أمر) أو أحد تصريفاتها، وهذه مثل:
- (واُمرتُ أن اُسلّم لربّ العالمين).
- (واُمرنا لنسلّم لربّ العالمين).
فإنّهما إخبار عن أمر قد صدر بصيغته الخاصّة به، وهي - واللَّه العالم – (أسلم) و (أسلموا).
2- فئة استعملت فيها الكلمة إنشاء يطلب به إصدار الأمر بصيغته الخاصّة به، وهذه مثل:
- (أمر أهلك بالصلاة).
أي - واللَّه العالم - قل لهم: (صلّوا).
فهذه ليست في صدد التشريع، فإذا حملت على الوجوب فلصدورها من المولى إلى العبد.
وتقدير نوعية الحكم في هاتين الفئتين من الأوامر يرتبط بالأمر الصادر بصيغته أو الأمر الذي سيصدر بصيغته أيضا، فإن كان ذلك واجبا كان هذا مثله، وان كان ندبا كان هذا ندبا.
3- فئة تستعمل فيها كلمة الأمر وسيلة تشريع، وهذه مثل قوله تعالى: (انّ اللَّه يأمُركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها).
ففي أمثال هذه يأتي التساؤل: هل هي للوجوب أو لغيره، أي انّها هي محور البحث عن دلالة مادّة الأمر.
هنا نقول: إنّ الأوامر إذا كانت طلبا لإيقاع الفعل فإنّها تقترن دائما بالجزاء.
ونوعية الجزاء هي التي تكشف لنا عن نوعية الأمر، هل هو على نحو الإلزام مع المنع من الترك، أو هو على نحو الإلزام لكن مع الترخيص بالترك.
فإن كان الجزاء ثوابا فقط فإنّ الأمر للندب، وإن كان الجزاء ثوابا على الفعل وعقابا على الترك فالأمر للوجوب.
وفي الآية الكريمة لأنّ الأمانة التي هي حقّ الغير، يعاقب المكلّف عند عدم ردّها لأهلها يكون الأمر فيها للوجوب.
وهذا الذي ذكرناه يقتضينا حمل دلالة الأمر على الطلب وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
والجزاء هو قرينة التعيين.
هيئة الأمر:
ويقال لها صيغة الأمر وهو الاسم الذي اشتهرت به على ألسنة الاُصوليين.
وصيغة الكلمة: هيئتها الحاصلة من ترتيب حروفها وحركاتها، أو قل: هي الشكل اللفظي الذي تتقولب فيه المادّة، ذلك أنّ الكلمة تتألّف من عنصرين أساسيين هما:
- المادّة: وهي حروفها وحركاتها.
- الهيئة: وهي الشكل الذي تصاغ به.
والمادة والهيئة للكلمة كوجهي العملة النقدية، فلا تكون الكلمة كلمة إلا بهما معا متكاملين.
والاُصوليون عندما عنونوا بحوثهم في موضوع الأوامر بـ(مادّة الأمر) و (صيغة الأمر) لم يقصدوا المادّة والصيغة لكلمة واحدة، وإن كان كلامهم قد يوهم هذا، وإنّما أرادوا بمادّة الأمر مادّة كلمة أمر خاصّة، وهي الحروف التي تألّفت منها هذه الكلمة وهي ( أ م ر).
وليس مرادهم مادّة هيئة كلّ فعل أو كلّ عبارة تدلّ على الطلب الأمري.
وأرادوا بهيئة الأمر أو صيغة الأمر كلّ صيغة تفيد الطلب الأمري مع أيّة مادّة كانت (أ م ر) وغيرها من المواد المستعملة في اللغة وعند العرف.
وقد تناول بحثهم صيغة الأمر من جهتين، هما:
1- معاني صيغة الأمر المستعملة فيها في اللغة العربية.
2- المعنى الشرعي الذي تدلّ عليه الصيغة.
(هيئات الأمر):
ولأنّه ليس للأمر في اللغة العربية صيغة واحدة فقط، وإنّما فيها أكثر من صيغة يقتضينا منهج البحث أن نذكر صيغ الأمر على اختلافها في اللغة العربية كجهة ثالثة، وأن نبدأ بها أوّلا، وهي:
1- فعل الأمر:
نحو قوله تعالى: (إذا قمتم للصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جُنبا فاطهّروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامَسْتُم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيدا طيّبا فامسحوا وجوهكم وأيديكم).
2- الفعل المضارع المقترن بلام الأمر:
كقوله سبحانه: (وإذا كُنتَ فيهم فأقمت لهم الصلاة فَلتَقُم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من وراءكم ولتأت طائفة اُخرى لم يصلّوا فليصلّوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم).
وقوله: (وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ).
3- اسم فعل الأمر:
مثل قوله عزّوجلّ: (قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ اللَّه حرّم هذا)، وقوله: (قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربّكم عليكم)، وقوله: (ياأيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم).
4- الجملة الفعليّه المقصود بها الإنشاء:
كقوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّ ما ردّوا إلى الفتنة اركسوا فيها فان لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واُولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا)، وقوله: (ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلا)، وقوله: (المطلّقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قُروء).
5- الجملة الاسميّة المقصود بها الإنشاء:
كقوله تعالى: (انّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا).
6- المصدر النائب عن فعل الأمر:
نحو قوله عزّوجلّ: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضربَ الرقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فامّا مّنا بعدُ وامّا فداءً حتّى تضع الحرب أوزارها).
انّ هذه الصيغ الأمرية المستعملة في القرآن الكريم وأمثالها هي ذاتها المستعملة عند أهل اللغة العربية حال نزول القرآن الكريم وحتّى الآن.
وقد دأب الاُصوليون على إدراج هذه الصيغ تحت عنوان (صيغة إفعل) لأنّ صيغة إفعل أكثر شيوعا في الاستعمالات الاجتماعية ولأجل الاختصار أيضا.
وأضاف إليها بعضهم عبارة (وما في معناها) فكان عنوانه: (صيغة إفعل وما في معناها) - كما في (المعالم) لكي تشمل بقية الصيغ.
(معاني صيغة الأمر):
يراد بها المعاني التي وضعت لها صيغة الأمر، أو قل: المستعملة فيها استعمالا حقيقيّا.
وقد بلغ بها ابن النجّار الحنبلي في كتابه (شرح الكوكب المنير) خمسة وثلاثين معنى، ذكرها كاملة مع التمثيل لكلّ معنى.
من ذلك:
- الوجوب (أقيموا الصلاة).
- والندب (كاتبوهم).
- والامتنان (كلوا ممّا رزقناكم).
- والإكرام (ادخلوها بسلام).
- والتعجيز (فأتوا بسورة من مثله).
- الامتهان (كونوا قردةً خاسئين).. الخ.
وفي هذا الذي ذكر خلط واضح بين المعنى النحوي الصرفي والمعنى البلاغي.
ذلك أنّ الذي يبحث في دلالات الصيغ ومعانيها هو علم النحو بعامّة، وعلم الصرف بخاصة.
ويصطلح - لغويا - على المعاني الصرفيّة والاُخرى النحوية بالمعاني الأوّلية.
وهناك المعاني الثانوية، وهي المعاني البلاغية التي تدرس في علم المعاني، والتي يريدون بها الأغراض أو الغايات أو المقاصد التي من أجلها يقول المتكلّم كلامه وفق مقتضى الحال أو حسبما يتطلّب الموقف.
والفرق بين هذين النوعين من المعاني، أنّ المعنى النحوي الصرفي هو المعنى الحقيقي للصيغة، والمعاني البلاغية - بالنسبة إليه - معان مجازية.
ولصيغة الأمر - عند الصرفيين - معنى واحد هو الوجوب.
أمّا معانيها البلاغية أو المجازية فكثيرة، منها:
1- الإلتماس، كقولك لمساويك في الرتبة: (أعطني هذا الكتاب).
2- الدعاء، نحو (ربّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النّار).
3- التمنّي، كقول امرئ القيس:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجل***** بصبح وما الإصباح منك بأمثل
4- التعجيز، كقوله تعالى: (فأتُوا بسورة من مثله).
5- التهديد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم).
6- التحقير، كقوله تعالى: (كونوا حجارة أو حديدا).
7- التسوية، كقوله تعالى: (فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم).
8- الامتنان، كقوله تعالى: (فكلوا ممّا رزقكم اللَّه)(1).
والذي يهمّنا - هنا - معرفة معناها الشرعي، أو قل (تشخيص ظهورها).
ونبدأ هذا، بذكر الأقوال الاُصولية في المسألة:
- في كتاب (معالم الدين):صيغة أفعل وما في معناها حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللغة على الأقوى وفاقا لجمهور الاُصوليين.
- وقال قوم: إنّها حقيقة في الندب فقط.
- وقيل في الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
- وقال علم الهدى(رحمه الله تعالى): إنّها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيّا في اللغة، وأمّا في العرف الشرعي فهي حقيقة في الوجوب فقط.
- وتوقّف في ذلك قوم فلم يدروا أللوجوب هي أم للندب.
- وقيل: هي مشتركة بين ثلاثة أشياء: الوجوب والندب والإباحة.
- وقيل: للقدر المشترك بين هذه الثلاثة، وهو الأذن.
- وزعم قوم: أنّها مشتركة بين أربعة اُمور، وهي الثلاثة السابقة والتهديد.
- وقيل فيها أشياء اُخرى لكنّها شديدة الشذوذ، بيّنة الوهن، فلا جدوى في التعرّض لنقلها.
والمذكور في (الذريعة) للشريف المرتضى علم الهدى هو قوله بأنّ صيغة افعل مشتركة اشتراكا لفظيا بين الوجوب والإباحة، قال: اختلف الناس في صيغة الأمر:
- فذهب الفقهاء كلّهم أو أكثرهم وأكثر المتكلّمين إلى أنّ للأمر صيغة مفردة مختصة به، متى استعملت في غيره كانت مجازا، وهي قول القائل لمن هو دونه في الرتبة (إفعل).
- وذهب آخرون إلى أنّ هذه اللفظة مشتركة بين الأمر والإباحة، وهي حقيقة فيهما، ومع الإطلاق لا يفهم أحد منهما، وإنّما يفهم واحد دون صاحبه بدليل، وهو الصحيح.
والذي يدلّ عليه: أنّ هذه اللفظة مستعملة بلا خلاف في الأمر والإباحة في التخاطب والشعر والقرآن، قال اللَّه تعالى: (أقيموا الصلاة) وهو أمر، وقال سبحانه: (وإذا حَللتم فاصطادوا) وهو مبيح، وكذلك قوله تعالى: (فإذا قُضِيَت الصلاة فانتَشِروا في الأرض)، والانتشار مباح غير مأمور به، وظاهر الاستعمال يدلّ على الحقيقة.
ورأينا في مقال صاحب المعالم أنّ الجمهور يذهب إلى أنّ صيغة (إفعل) ظاهرة في الوجوب، وقوى (أعني صاحب المعالم) هذا الرأي.
استدلّ القائلون بظهور الصيغة في الوجوب بالأدلّة التالية:
1- الفهم العرفي:
قال في (المعالم): إنّا نقطع بأنّ السيّد إذا قال لعبده: (إفعل كذا) فلم يفعل عد عاصيا، وذمّه العقلاء، معلّلين حسن ذمّه بمجرد ترك الإمتثال، وهو معنى الوجوب.
وقال مغنية - وهو من القائلين بظهور الصيغة في الوجوب: كلّ الناس يفهمون ويعلمون أنّ البدوي إذا قال لولده (اعقل الناقة) فإنّه لا يرضى عنه إلا إذا صدع بالأمر، ونفس الشيء إذا قال الحضري لسائق سيارته (ضعها في المرآب)، ويرون الولد أو السائق عاصيا يستحق الذمّ إذا هو ترك وأهمل، ولا تنفعه المعذرة بأنّ صيغة افعل لوحدها بلا قرينة لا تدلّ على الإلزام والوجوب.
2- النصوص الشرعيّة، مثل:
(وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون).
فإنّه - سبحانه - ذمّهم على مخالفتهم للأمر، ولولا أنّه للوجوب لم يتوجّه الذمّ.
3- الإدراك العقلي:
يقول اُستاذنا المظفّر: والحقّ أنّها (يعني الصيغة) ظاهرة في الوجوب، وشأنها في ظهورها في الوجوب شأن مادّة الأمر من انّ الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى ووجوب الإنبعاث عن بعثه قضاءً لحقّ المولوية والعبوديّة، ما لم يرخّص نفس المولى بالترك ويأذن به، وبدون الترخيص فالأمر لو خلي وطبعه شأنه أن يكون من مصاديق حكم العقل بوجوب الطاعة.
هذه محصّلة ما ذكروه.
غير أنّ البحث في المسألة يفرض علينا الرجوع إلى النصوص الشرعية الأمرية، والوقوف على المعاني الشرعيّة التي استعملت فيها من قبل المشرّع نفسه.
وعند ذلك سوف نرى:
- انّ بعضها مستعمل في الوجوب.
- وبعضها مستعمل في الندب.
- وبعضها مستعمل في الإباحة.
وأن حملها على أي منها كان يستفاد من قرينة الجزاء الشرعي.
ولا أراني بحاجة إلى ذكر أمثلة لذلك لأنّ النصوص كلّها على هذا.
ومن هنا ندرك أنّ الصيغة غير المقترنة بما يعيّن المراد منها لا ظهور لها إلا في مطلق جواز الإتيان بالفعل.
وهذا يعني انّها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وهو الجواز.
ويتمّ تعيين أي واحد من هذه الثلاثة هو المراد شرعا، بقرينة الجزاء.
فما يكون الجزاء فيه ثوابا على الفعل وعقابا على الترك فهو الوجوب، ومايكون الجزاء فيه ثوابا على الفعل ولا عقاب على تركه فهو الندب.
وما لا جزاء على فعله ولا على تركه فهو الإباحة.
التطبيق:
بعد أن تبيّنا - نظريا - دلالة الأمر مستمدّين ذلك من التعاملات العرفيّة والاستعمالات الشرعيّة، ننتقل إلى دور التطبيق مجيبين على التساؤل التالي:
1- كيف يتعامل الفقيه مع المنقول الشرعي الأمري؟
الإجابة:
- إذا انتهى البحث الاُصولي بالفقيه إلى أنّ الأمر ظاهر في الوجوب، فإنّه سيتبّع الخطوات التالية:
أ- إذا كان الأمر غير مقترن بما يعيّن المراد منه، يحمل على الوجوب.
أي يستفيد منه الفقيه دلالته على الوجوب.
ب- وإذا كان الأمر مقترنا بما يدلّ على مراد الشارع المقدّس منه، يحمله الفقيه على ما دلّت عليه القرينة، أي يستفيد منه الحكم الذي صرفته إليه القرينة.
ج- إذا شكّ في دلالة الأمر، ويتأتّى هذا عندما يقترن الأمر بشيء يشكّ في أنّه قرينة أو غير قرينة.
هنا أيضا يحمله على الوجوب تطبيقا للقاعدة التي تقول: الأصل عدم القرينة.
وفحواها: أنّنا إذا شككنا في شيء أنّه قرينة أو ليس بقرينة نبني على انّه ليس بقرينة.
ومعنى هذا: أنّ النتيجة - بعد تطبيق هذه القاعدة - أنّ الأمر مجرّد من القرينة، والأمر المجرد من القرائن - حسب الرأي - ظاهر في الوجوب، فيحمل على الوجوب.
- إذا أسلم البحث الاُصولي الفقيه إلى أنّ الأمر ظاهر في الندب فإنّه سيتبّع الخطوات نفسها، ولكن بوضع الندب موضع الوجوب.
- وإذا أنهى البحث الاُصولي إلى أنّ الأمر مشترك بين الوجوب والندب، أو بينهما والإباحة.. والخ.
هنا لا يحمل الأمر على أي واحد منها إلا بعد التماس القرينة المعيّنة له.
ويتأتّى هذا في الاشتراكين اللفظي والمعنوي على حدٍّ سواء.
(الأمثلة):
1- الأمر غير المقترن:
عن الحلبي عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): (من دخل بامرأة قبل أن تبلغ تسع سنين فأصابها عيب فهو ضامن).
فجملة (هو ضامن) جملة إنشائية أمرية، أفاد الفقهاء منها وجوب الديّة على الزوج.
وعن الحلبي أيضا عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): سألته عن رجل تزوّج جارية فوقع عليها فأفضاها، قال (عليه السلام): (عليه الإجراء عليها ما دامت حيّة).
فجملة (عليه الإجراء عليها ما دامت حيّة) جملة إنشائية أمرية، أفاد الفقهاء منها وجوب النفقة على الزوجة مدّة حياتها.
وهذه الإفادة من الفقهاء قائمة على إحدى قاعدتين، هما:
1- قاعدة أنّ الأمر العاري عن القرينة يفيد الوجوب.
2- قاعدة أنّ الأمر المقترن بما يفيد الوجوب يحمل على الوجوب والأمر في الحديث الأوّل تطبيق لقاعدة وجوب الضمان عند حدوث العيب (لكلّ خدش أرش)(2) التي اُفيد وجوبها من نصوص اُخرى، فالتطبيق - هنا - هو قرينة الوجوب.
والأمر في الحديث الثاني مقترن بقوله (عليه) التي تفيد الإلزام الوجوبي حسبما يستفاد من استعمالاته في لسان الشرع.
3- الأمر المقترن:
أ- المقترن بما يفيد الوجوب.
قوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى).
والقرينة - هنا - هي مادّة (كتب) حيث استعملت في الاُسلوب القرآني بمعنى (فرض) و (أوجب) إذا اُريد بها التشريع، كما في الآية (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم)، فإنّها واضحة في إرادة الفرض والوجوب، وذلك من قوله تعالى (كتبنا).
ب- المقترن بما يفيد الندب:
عن الصادق عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (تزوّجوا فإنّ رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أحبّ أن يتبّع سنّتي فإنّ من سنّتي التزويج).
والقرينة - هنا - هي عبارة (سنّتي) التي يراد بها الإستحباب، لأنّ السنّة - كما تقدّم في موضوع الحكم - ترادف الإستحباب والندب.
ج- المقترن بما يفيد الإباحة:
قوله تعالى: (أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلّي الصيد وأنتم حرم.. وإذا حللتم فاصطادوا).
القرينة - هنا - هي عبارة (وأنتم حرم) التي تفيد حظر الصيد وقت الإحرام، ولأنّ حكم الصيد المستفاد من النصوص الاُخرى هو الجواز والإباحة يكون الأمر (فاصطادوا) للإشعار بانتهاء مدّة التحريم ورجوع الإصطياد إلى حكمه السابق، وهو الإباحة. وهكذا.
الهوامش:
(1)- أنظر:
- مختصر النحو للمؤلف:أسلوب الأمر.
تلخيص البلاغة له أيضاً: الإنشاء.
(2)- الخدش: الجرحّ.
الأرش:الدية.
سيتم وضع روابط دروس الحوزة العلميه
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)