الجمعة، 21 يونيو 2019

الامر عند الاصوليين الشيخ اية الله عبد الكريم الحائري

وبملاحظة النصوص الشرعيّة الواردة في القرآن الكريم وجدناها تنقسم إلى:
1- فئة استعملت فيها الكلمة إخبارا يشير إلى تشريع قد صدر بصيغته الخاصّة به، وليس بكلمة (أمر) أو أحد تصريفاتها، وهذه مثل:
- (واُمرتُ أن اُسلّم لربّ العالمين).
- (واُمرنا لنسلّم لربّ العالمين).
فإنّهما إخبار عن أمر قد صدر بصيغته الخاصّة به، وهي - واللَّه العالم – (أسلم) و (أسلموا).
2- فئة استعملت فيها الكلمة إنشاء يطلب به إصدار الأمر بصيغته الخاصّة به، وهذه مثل:
- (أمر أهلك بالصلاة).
أي - واللَّه العالم - قل لهم: (صلّوا).
فهذه ليست في صدد التشريع، فإذا حملت على الوجوب فلصدورها من المولى إلى العبد.
وتقدير نوعية الحكم في هاتين الفئتين من الأوامر يرتبط بالأمر الصادر بصيغته أو الأمر الذي سيصدر بصيغته أيضا، فإن كان ذلك واجبا كان هذا مثله، وان كان ندبا كان هذا ندبا.
3- فئة تستعمل فيها كلمة الأمر وسيلة تشريع، وهذه مثل قوله تعالى: (انّ اللَّه يأمُركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها).
ففي أمثال هذه يأتي التساؤل: هل هي للوجوب أو لغيره، أي انّها هي محور البحث عن دلالة مادّة الأمر.
هنا نقول: إنّ الأوامر إذا كانت طلبا لإيقاع الفعل فإنّها تقترن دائما بالجزاء.
ونوعية الجزاء هي التي تكشف لنا عن نوعية الأمر، هل هو على نحو الإلزام مع المنع من الترك، أو هو على نحو الإلزام لكن مع الترخيص بالترك.
فإن كان الجزاء ثوابا فقط فإنّ الأمر للندب، وإن كان الجزاء ثوابا على الفعل وعقابا على الترك فالأمر للوجوب.
وفي الآية الكريمة لأنّ الأمانة التي هي حقّ الغير، يعاقب المكلّف عند عدم ردّها لأهلها يكون الأمر فيها للوجوب.
وهذا الذي ذكرناه يقتضينا حمل دلالة الأمر على الطلب وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
والجزاء هو قرينة التعيين.
هيئة الأمر:
ويقال لها صيغة الأمر وهو الاسم الذي اشتهرت به على ألسنة الاُصوليين.
وصيغة الكلمة: هيئتها الحاصلة من ترتيب حروفها وحركاتها، أو قل: هي الشكل اللفظي الذي تتقولب فيه المادّة، ذلك أنّ الكلمة تتألّف من عنصرين أساسيين هما:
- المادّة: وهي حروفها وحركاتها.
- الهيئة: وهي الشكل الذي تصاغ به.
والمادة والهيئة للكلمة كوجهي العملة النقدية، فلا تكون الكلمة كلمة إلا بهما معا متكاملين.
والاُصوليون عندما عنونوا بحوثهم في موضوع الأوامر بـ(مادّة الأمر) و (صيغة الأمر) لم يقصدوا المادّة والصيغة لكلمة واحدة، وإن كان كلامهم قد يوهم هذا، وإنّما أرادوا بمادّة الأمر مادّة كلمة أمر خاصّة، وهي الحروف التي تألّفت منها هذه الكلمة وهي ( أ م ر).
وليس مرادهم مادّة هيئة كلّ فعل أو كلّ عبارة تدلّ على الطلب الأمري.
وأرادوا بهيئة الأمر أو صيغة الأمر كلّ صيغة تفيد الطلب الأمري مع أيّة مادّة كانت (أ م ر) وغيرها من المواد المستعملة في اللغة وعند العرف.
وقد تناول بحثهم صيغة الأمر من جهتين، هما:
1- معاني صيغة الأمر المستعملة فيها في اللغة العربية.
2- المعنى الشرعي الذي تدلّ عليه الصيغة.
(هيئات الأمر):
ولأنّه ليس للأمر في اللغة العربية صيغة واحدة فقط، وإنّما فيها أكثر من صيغة يقتضينا منهج البحث أن نذكر صيغ الأمر على  اختلافها في اللغة العربية كجهة ثالثة، وأن نبدأ بها أوّلا، وهي:
1- فعل الأمر:
نحو قوله تعالى: (إذا قمتم للصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جُنبا فاطهّروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامَسْتُم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيدا طيّبا فامسحوا وجوهكم وأيديكم).
2- الفعل المضارع المقترن بلام الأمر:
كقوله سبحانه: (وإذا كُنتَ فيهم فأقمت لهم الصلاة فَلتَقُم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من وراءكم ولتأت طائفة اُخرى لم يصلّوا فليصلّوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم).
وقوله: (وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ).
3- اسم فعل الأمر:
مثل قوله عزّوجلّ: (قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ اللَّه حرّم هذا)، وقوله: (قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربّكم عليكم)، وقوله: (ياأيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم).
4- الجملة الفعليّه المقصود بها الإنشاء:
كقوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّ ما ردّوا إلى الفتنة اركسوا فيها فان لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واُولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا)، وقوله: (ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلا)، وقوله: (المطلّقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قُروء).
5- الجملة الاسميّة المقصود بها الإنشاء:
كقوله تعالى: (انّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا).
6- المصدر النائب عن فعل الأمر:
نحو قوله عزّوجلّ: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضربَ الرقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فامّا مّنا بعدُ وامّا فداءً حتّى تضع الحرب أوزارها).
انّ هذه الصيغ الأمرية المستعملة في القرآن الكريم وأمثالها هي ذاتها المستعملة عند أهل اللغة العربية حال نزول القرآن الكريم وحتّى الآن.
وقد دأب الاُصوليون على إدراج هذه الصيغ تحت عنوان (صيغة إفعل) لأنّ صيغة إفعل أكثر شيوعا في الاستعمالات الاجتماعية ولأجل الاختصار أيضا.
وأضاف إليها بعضهم عبارة (وما في معناها) فكان عنوانه: (صيغة إفعل وما في معناها) - كما في (المعالم) لكي تشمل بقية الصيغ.
(معاني صيغة الأمر):
يراد بها المعاني التي وضعت لها صيغة الأمر، أو قل: المستعملة فيها استعمالا حقيقيّا.
وقد بلغ بها ابن النجّار الحنبلي في كتابه (شرح الكوكب المنير) خمسة وثلاثين معنى، ذكرها كاملة مع التمثيل لكلّ معنى.
من ذلك:
- الوجوب (أقيموا الصلاة).
- والندب (كاتبوهم).
- والامتنان (كلوا ممّا رزقناكم).
- والإكرام (ادخلوها بسلام).
- والتعجيز (فأتوا بسورة من مثله).
- الامتهان (كونوا قردةً خاسئين).. الخ.
وفي هذا الذي ذكر خلط واضح بين المعنى النحوي الصرفي والمعنى البلاغي.
ذلك أنّ الذي يبحث في دلالات الصيغ ومعانيها هو علم النحو بعامّة، وعلم الصرف بخاصة.
ويصطلح - لغويا - على المعاني الصرفيّة والاُخرى النحوية بالمعاني الأوّلية.
وهناك المعاني الثانوية، وهي المعاني البلاغية التي تدرس في علم المعاني، والتي يريدون بها الأغراض أو الغايات أو المقاصد التي من أجلها يقول المتكلّم كلامه وفق مقتضى الحال أو حسبما يتطلّب الموقف.
والفرق بين هذين النوعين من المعاني، أنّ المعنى النحوي الصرفي هو المعنى الحقيقي للصيغة، والمعاني البلاغية - بالنسبة إليه - معان مجازية.
ولصيغة الأمر - عند الصرفيين - معنى واحد هو الوجوب.
أمّا معانيها البلاغية أو المجازية فكثيرة، منها:
1- الإلتماس، كقولك لمساويك في الرتبة: (أعطني هذا الكتاب).
2- الدعاء، نحو (ربّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النّار).
3- التمنّي، كقول امرئ القيس:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجل***** بصبح وما الإصباح منك بأمثل
4- التعجيز، كقوله تعالى: (فأتُوا بسورة من مثله).
5- التهديد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم).
6- التحقير، كقوله تعالى: (كونوا حجارة أو حديدا).
7- التسوية، كقوله تعالى: (فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم).
8- الامتنان، كقوله تعالى: (فكلوا ممّا رزقكم اللَّه)(1).
والذي يهمّنا - هنا - معرفة معناها الشرعي، أو قل (تشخيص ظهورها).
ونبدأ هذا، بذكر الأقوال الاُصولية في المسألة:
- في كتاب (معالم الدين):صيغة أفعل وما في معناها حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللغة على الأقوى وفاقا لجمهور الاُصوليين.
- وقال قوم: إنّها حقيقة في الندب فقط.
- وقيل في الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
- وقال علم الهدى(رحمه الله تعالى): إنّها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيّا في اللغة، وأمّا في العرف الشرعي فهي حقيقة في الوجوب فقط.
- وتوقّف في ذلك قوم فلم يدروا أللوجوب هي أم للندب.
- وقيل: هي مشتركة بين ثلاثة أشياء: الوجوب والندب والإباحة.
- وقيل: للقدر المشترك بين هذه الثلاثة، وهو الأذن.
- وزعم قوم: أنّها مشتركة بين أربعة اُمور، وهي الثلاثة السابقة والتهديد.
- وقيل فيها أشياء اُخرى لكنّها شديدة الشذوذ، بيّنة الوهن، فلا جدوى في التعرّض لنقلها.
والمذكور في (الذريعة) للشريف المرتضى علم الهدى هو قوله بأنّ صيغة افعل مشتركة اشتراكا لفظيا بين الوجوب والإباحة، قال: اختلف الناس في صيغة الأمر:
- فذهب الفقهاء كلّهم أو أكثرهم وأكثر المتكلّمين إلى أنّ للأمر صيغة مفردة مختصة به، متى استعملت في غيره كانت مجازا، وهي قول القائل لمن هو دونه في الرتبة (إفعل).
- وذهب آخرون إلى أنّ هذه اللفظة مشتركة بين الأمر والإباحة، وهي حقيقة فيهما، ومع الإطلاق لا يفهم أحد منهما، وإنّما يفهم واحد دون صاحبه بدليل، وهو الصحيح.
والذي يدلّ عليه: أنّ هذه اللفظة مستعملة بلا خلاف في الأمر والإباحة في التخاطب والشعر والقرآن، قال اللَّه تعالى: (أقيموا الصلاة) وهو أمر، وقال سبحانه: (وإذا حَللتم فاصطادوا) وهو مبيح، وكذلك قوله تعالى: (فإذا قُضِيَت الصلاة فانتَشِروا في الأرض)، والانتشار مباح غير مأمور به، وظاهر الاستعمال يدلّ على الحقيقة.
ورأينا في مقال صاحب المعالم أنّ الجمهور يذهب إلى أنّ صيغة (إفعل) ظاهرة في الوجوب، وقوى (أعني صاحب المعالم) هذا الرأي.
استدلّ القائلون بظهور الصيغة في الوجوب بالأدلّة التالية:
1- الفهم العرفي:
قال في (المعالم): إنّا نقطع بأنّ السيّد إذا قال لعبده: (إفعل كذا) فلم يفعل عد عاصيا، وذمّه العقلاء، معلّلين حسن ذمّه بمجرد ترك الإمتثال، وهو معنى الوجوب.
وقال مغنية - وهو من القائلين بظهور الصيغة في الوجوب:  كلّ الناس يفهمون ويعلمون أنّ البدوي إذا قال لولده (اعقل الناقة) فإنّه لا يرضى عنه إلا إذا صدع بالأمر، ونفس الشي‏ء إذا قال الحضري لسائق سيارته (ضعها في المرآب)، ويرون الولد أو السائق عاصيا يستحق الذمّ إذا هو ترك وأهمل، ولا تنفعه المعذرة بأنّ صيغة افعل لوحدها بلا قرينة لا تدلّ على الإلزام والوجوب.
2- النصوص الشرعيّة، مثل:
(وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون).
فإنّه - سبحانه - ذمّهم على مخالفتهم للأمر، ولولا أنّه للوجوب لم يتوجّه الذمّ.
3- الإدراك العقلي:
يقول اُستاذنا المظفّر: والحقّ أنّها (يعني الصيغة) ظاهرة في الوجوب، وشأنها في ظهورها في الوجوب شأن مادّة الأمر من انّ الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى ووجوب الإنبعاث عن بعثه قضاءً لحقّ المولوية والعبوديّة، ما لم يرخّص نفس المولى بالترك ويأذن به، وبدون الترخيص فالأمر لو خلي وطبعه شأنه أن يكون من مصاديق حكم العقل بوجوب الطاعة.
هذه محصّلة ما ذكروه.
غير أنّ البحث في المسألة يفرض علينا الرجوع إلى النصوص الشرعية الأمرية، والوقوف على المعاني الشرعيّة التي استعملت فيها من قبل المشرّع نفسه.
وعند ذلك سوف نرى:
- انّ بعضها مستعمل في الوجوب.
- وبعضها مستعمل في الندب.
- وبعضها مستعمل في الإباحة.
وأن حملها على أي منها كان يستفاد من قرينة الجزاء الشرعي.
ولا أراني بحاجة إلى ذكر أمثلة لذلك لأنّ النصوص كلّها على هذا.
ومن هنا ندرك أنّ الصيغة غير المقترنة بما يعيّن المراد منها لا ظهور لها إلا في مطلق جواز الإتيان بالفعل.
وهذا يعني انّها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وهو الجواز.
ويتمّ تعيين أي واحد من هذه الثلاثة هو المراد شرعا، بقرينة الجزاء.
فما يكون الجزاء فيه ثوابا على الفعل وعقابا على الترك فهو الوجوب، ومايكون الجزاء فيه ثوابا على الفعل ولا عقاب على تركه فهو الندب.
وما لا جزاء على فعله ولا على تركه فهو الإباحة.
التطبيق:
بعد أن تبيّنا - نظريا - دلالة الأمر مستمدّين ذلك من التعاملات العرفيّة والاستعمالات الشرعيّة، ننتقل إلى دور التطبيق مجيبين على التساؤل التالي:
1- كيف يتعامل الفقيه مع المنقول الشرعي الأمري؟
الإجابة:
- إذا انتهى البحث الاُصولي بالفقيه إلى أنّ الأمر ظاهر في الوجوب، فإنّه سيتبّع الخطوات التالية:
أ- إذا كان الأمر غير مقترن بما يعيّن المراد منه، يحمل على الوجوب.
أي يستفيد منه الفقيه دلالته على الوجوب.
ب- وإذا كان الأمر مقترنا بما يدلّ على مراد الشارع المقدّس منه، يحمله الفقيه على ما دلّت عليه القرينة، أي يستفيد منه الحكم الذي صرفته إليه القرينة.
ج- إذا شكّ في دلالة الأمر، ويتأتّى هذا عندما يقترن الأمر بشي‏ء يشكّ في أنّه قرينة أو غير قرينة.
هنا أيضا يحمله على الوجوب تطبيقا للقاعدة التي تقول: الأصل عدم القرينة.
وفحواها: أنّنا إذا شككنا في شي‏ء أنّه قرينة أو ليس بقرينة نبني على انّه ليس بقرينة.
ومعنى هذا: أنّ النتيجة - بعد تطبيق هذه القاعدة - أنّ الأمر مجرّد من القرينة، والأمر المجرد من القرائن - حسب الرأي - ظاهر في الوجوب، فيحمل على الوجوب.
- إذا أسلم البحث الاُصولي الفقيه إلى أنّ الأمر ظاهر في الندب فإنّه سيتبّع الخطوات نفسها، ولكن بوضع الندب موضع الوجوب.
- وإذا أنهى البحث الاُصولي إلى أنّ الأمر مشترك بين الوجوب والندب، أو بينهما والإباحة.. والخ.
هنا لا يحمل الأمر على أي واحد منها إلا بعد التماس القرينة المعيّنة له.
ويتأتّى هذا في الاشتراكين اللفظي والمعنوي على حدٍّ سواء.
(الأمثلة):
1- الأمر غير المقترن:
عن الحلبي عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): (من دخل بامرأة قبل أن تبلغ تسع سنين فأصابها عيب فهو ضامن).
فجملة (هو ضامن) جملة إنشائية أمرية، أفاد الفقهاء منها وجوب الديّة على الزوج.
وعن الحلبي أيضا عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): سألته عن رجل تزوّج جارية فوقع عليها فأفضاها، قال (عليه السلام): (عليه الإجراء عليها ما دامت حيّة).
فجملة (عليه الإجراء عليها ما دامت حيّة) جملة إنشائية أمرية، أفاد الفقهاء منها وجوب النفقة على الزوجة مدّة حياتها.
وهذه الإفادة من الفقهاء قائمة على إحدى قاعدتين، هما:
1- قاعدة أنّ الأمر العاري عن القرينة يفيد الوجوب.
2- قاعدة أنّ الأمر المقترن بما يفيد الوجوب يحمل على الوجوب والأمر في الحديث الأوّل تطبيق لقاعدة وجوب الضمان عند حدوث العيب (لكلّ خدش أرش)(2) التي اُفيد وجوبها من نصوص اُخرى، فالتطبيق - هنا - هو قرينة الوجوب.
والأمر في الحديث الثاني مقترن بقوله (عليه) التي تفيد الإلزام الوجوبي حسبما يستفاد من استعمالاته في لسان الشرع.
3- الأمر المقترن:
أ- المقترن بما يفيد الوجوب.
قوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى).
والقرينة - هنا - هي مادّة (كتب) حيث استعملت في الاُسلوب القرآني بمعنى (فرض) و (أوجب) إذا اُريد بها التشريع، كما في الآية (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم)، فإنّها واضحة في إرادة الفرض والوجوب، وذلك من قوله تعالى (كتبنا).
ب- المقترن بما يفيد الندب:
عن الصادق عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (تزوّجوا فإنّ رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أحبّ أن يتبّع سنّتي فإنّ من سنّتي التزويج).
والقرينة - هنا - هي عبارة (سنّتي) التي يراد بها الإستحباب، لأنّ السنّة - كما تقدّم في موضوع الحكم - ترادف الإستحباب والندب.
ج- المقترن بما يفيد الإباحة:
قوله تعالى: (أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلّي الصيد وأنتم حرم.. وإذا حللتم فاصطادوا).
القرينة - هنا - هي عبارة (وأنتم حرم) التي تفيد حظر الصيد وقت الإحرام، ولأنّ حكم الصيد المستفاد من النصوص الاُخرى هو الجواز والإباحة يكون الأمر (فاصطادوا) للإشعار بانتهاء مدّة التحريم ورجوع الإصطياد إلى حكمه السابق، وهو الإباحة. وهكذا.

الهوامش:
(1)- أنظر:
- مختصر النحو للمؤلف:أسلوب الأمر.
تلخيص البلاغة له أيضاً: الإنشاء.
(2)- الخدش: الجرحّ.
الأرش:الدية.

النهي عند الاصوليين اصول الفقه اية الله عبد الكريم الحائري

النواهي
النواهي: جمع، مفردة نهي، وهو خلاف الأمر.
تعريف النهي:
لا يختلف اللغويون في أنّ النهي ضدّ الأمر أو خلاف الأمر، وإنّما اختلفوا في معناه على أقوال، هي:
1- طلب الكفّ عن الإتيان بالفعل.
قال الجوهري في (الصحاح):النهي خلاف الأمر، ونهيته عن كذا فانتهى عنه، وتناهى، أي كفّ.
وعبّر عنه في (المعجم الوسيط) بـ(طلب الامتناع)  فقد جاء فيه: النهي: طلب الامتناع عن الشي‏ء.
والامتناع عن الشي‏ء يعني الكفّ عنه، ذلك أنّ كلا منهما يرادف الآخر.
2- طلب ترك الفعل:
قال الكرمي في (الهادي): النهي ضدّ الأمر، أو هو ترك العمل المراد.
وهو التعريف النحوي للنهي إلا أنّ النحّاة قيدوه بأن يكون بأداة النهي وهي (لا) أو أداة التحذير وهي (إيّاك) وفروعها.
وعبّر عنه (أعني طلب الترك) قدامى الاُصوليين - لا سيّما المعتزلة منهم – بـ(أن لا تفعل).
ففي محصول الرازي: المطلوب بالنهي عندنا فعل ضدّ المنهي عنه، وعند أبي هاشم(1): نفس أن لا يفعل المنهي عنه.
(أن لا يفعل) من الألفاظ الاُصولية، وعن الاُصوليين أخذه الشريف الجرجاني في تعريفاته حيث قال: النهي ضدّ الأمر وهو قول القائل لمن دونه لاتفعل.
وقد سرب هذا التعبير الاُصولي إلى المتأخّرين من أصحابنا، ففي (معالم الدين):وقال (يعني العلامة الحلّي) في (النهاية): المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل، وحكي أنّه قول جماعة كثيرة.
3- الزجر عن الشي‏ء:
ففي (معجم ألفاظ القرآن الكريم) - لمجمع اللغة العربية بالقاهرة المعاصر -:  نهاه عن الشي‏ء ينهاه فهو ناه، وهم ناهون: زجره عنه بالقول والفعل.
وهو - فيما يبدو لي - مستعار من التعريف الاُصولي المعاصر الذي انتهت إليه مدرسة النجف الاُصولية الحديثة - كما سيأتي.
والفرق بين الزجر عن الشي‏ء على نحو الكفّ أو الترك هو أنّ طلب الكفّ وكذلك طلب الترك من لوازم الزجر، لأنّ الانزجار الذي هو نتيجة الزجر يتحقّق بالكفّ عن الفعل أو تركه، فالكفّ والترك هما مطلوب الزاجر.
وكذلك لم يختلف الاُصوليون في أنّ النهي ضدّ الأمر أو خلاف الأمر.
وأيضا لم يختلفوا في أنّه اُسلوب إنشائي.
وإنّما اختلفوا في مدلوله، على أساس من الاختلاف اللغوي في معناه، فقالوا:
1- هو دالّ على الزجر.
2- هو دالّ على الطلب.
واختلفوا في المطلوب على قولين هما:
أ- أنّه دالّ على طلب الكفّ عن الفعل.
ب- أنّه دالّ على طلب ترك الفعل.
وهم على اشتراط العلو أو الاستعلاء أو كليهما - كما تقدّم في مبحث الأمر - ومن هنا قال الشوكاني في (إرشاد الفحول ):وهو (يعني النهي) في الاصطلاح: القول الإنشائي الدالّ على طلب كفّ عن فعل على جهة الإستعلاء.
مادّته:
ويراد بها كلمة (نهي) أي (ن ه’ ي)، وهي تفيد معنى الزجر، أو معنى طلب الامتناع عن الفعل.
والزجر يعني المنع.
والمنع من فعل الشي‏ء قد يكون على نحو الإلزام مع عدم الترخيص بالإتيان بالفعل، وقد يكون مع الترخيص بالإتيان بالفعل، والأوّل هو معنى الحرمة، والثاني هو معنى الكراهة.
ويفرّق بينهما بقرينة الجزاء، فما توعّد فاعله بالعقوبة فهو الحرمة وإلا فهو الكراهة.
وذهب الجمهور إلى دلالة مادّة النهي على التحريم.
صيغته:
المراد من صيغة النهي كلّ هيئة تفيد الزجر عن الفعل أو طلب الكفّ عن الفعل أو طلب ترك الفعل - على الاختلاف في تعريفه.
وللنهي في اللغة العربية ثلاث صيغ، هي:
1- الفعل المضارع المقترن بـ(لا) الناهية، كقوله تعالى: (لا تقربوا الزنى).
2- اُسلوب التحذير، نحو قوله(صلى الله عليه وآله وسلم):(إيّاكم وخضراء الدِّمن).
3- الجملة الخبرية، مثل قوله سبحانه: (ويلٌ للمطفّفين).
معاني الصيغة:
للنهي - كالأمر - معنى لغوي صرفي ومعانٍ اُخرى بلاغية، والمعنى الصرفي أو النحوي هو التحريم، وهو المعنى الحقيقي له لظهوره فيه، والمعاني البلاغية هي المعاني المجازية له، وبلغ بها ابن النجار الحنبلي في (شرح الكوكب المنير) خمسة عشر معنى، منها:
1- الإلتماس، كقولك لنظيرك: (لا تذهب إلى ساحل البحر).
2- الدعاء، كقوله تعالى: (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
3- التمنّي، كقول الشاعر:
ياليل طل يانوم زل***** ياصبح قف لا تطلع
4- التيئيس، كقوله تعالى: (لا تعتذروا اليوم).
5- التهديد، كقولك لابنك الصغير: (لا تمتثل أمري).
6- الإرشاد، كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم).
دلالة الصيغة:
ويراد بالدلالة - هنا - الدلالة الظهورية.
ذهب الجمهور إلى أنّ صيغة النهي ظاهرة في التحريم، واستدلّوا لذلك بالفهم العرفي والنصوص الشرعيّة وإدراك العقل.
قال في (معالم الدين):اختلف الناس في مدلول صيغة النهي حقيقة، على نحو اختلافهم في الأمر.
والحقّ: إنّها حقيقة في التحريم مجاز في غيره:
- لأنّه المتبادر منها في العرف العامّ عند الإطلاق، ولهذا يذمّ العبد على فعل مانهاه المولى عنه بقوله (لا تفعله)، والأصل عدم النقل.
- ولقوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا)، أوجب سبحانه الانتهاء عمّا نهى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، لما ثبت من أنّ الأمر حقيقة في الوجوب، وما وجب الانتهاء عنه، فقد حرم فعله.
والذين قالوا بأنّ صيغة افعل ظاهرة في الوجوب لأنّ العقل يحكم بذلك قضاء لحقّ العبوديّة والمولوية قالوا هنا إنّ صيغة النهي ظاهرة في التحريم لأنّ العقل يحكم بذلك قضاء لحقّ العبودية والمولوية.
وقلنا في مبحث دلالة صيغة افعل إنّ الطريق السوي الذي يوصل إلى معرفة مدلول الصيغة هو استقراء الاستعمالات الشرعيّة للصيغة.
وكذلك نقول هنا إنّ الطريق السوي هو الاستقراء، والاستقراء أوقفنا على انّ صيغة النهي كما تستعمل في التحريم تستعمل في الكراهة، فهي لكلّ منهما.
والجزاء هو القرينة المعينة للمراد منها، فإن كان في البين وعيد على الفعل فالمراد منها الحرمة، وإن لم يكن فالمراد منها هو الكراهة.
المطلوب بالنهي:
من المسائل التي اُثيرت في البحث الاُصولي التساؤل عن المراد من النهي. ويبدو من ذكر أسماء بعض المعتزلة التي تردّد ذكرها عند عرض الأقوال في المسألة كاسم أبي هاشم الجبائي - كما تقدّم - أنّها استوردت من كتبهم الاُصولية التي نهجوا فيها المنهج الكلامي.
وبقيت تثار منذ العهود الاُصوليّة المبكّرة وحتّى عهدنا هذا، كما استمرت تعالج وفق المنهج الكلامي.
وهي من أوضح القضايا التي تكشف عن تأثّر علم اُصول الفقه بعلم الكلام.
ومن أقدم من حرّرها من علمائنا الإمامية الشيخ العاملي في (المعالم)، قال: وقد اختلفوا في أنّ المطلوب بالنهي ما هو؟
- فذهب الأكثرون إلى أنّه هو الكفّ عن الفعل المنهي عنه، منهم العلّامة ؛ في تهذيبه.
- وقال (يعني العلّامة) في النهاية: المطلوب بالنهي: نفس أن لا تفعل، وحكي أنّه قول جماعة كثيرة.
ويريدون من عبارتهم (نفس أن لا تفعل): ترك الفعل - كما مرّ -.
فالمسألة فيها قولان:
1- طلب الكفّ عن الفعل.
2- طلب ترك الفعل.
والفرق بين الكفّ والترك في المنظور الكلامي هو:
- أنّ الكفّ - ويراد به كفّ النفس عن الفعل - شي‏ء وجودي، لأنّ النفس موجودة، وصاحبها قادر على كفّها ومنعها من الأقدام على الفعل. فإذا قيل (لا تشرب الخمر) فإنّ الإنسان يستطيع بإرادته أن يكفّ نفسه عن أن تقدم على شرب الخمر.
- أمّا الترك فهو شي‏ء عدمي محض لا تطاله قدرة الإنسان لأنّه حاصل، وتحصيل الحاصل غير مقدور.
وعلى أساس من هذا الفرق أثار القائلون إنّ النهي هو طلب الكفّ ردّا على القائلين إنّه الترك الإشكال التالي:
إنّ الطلب الذي هو تكليف شرعي أمر وجودي، والتكليف لا يتعلّق إلا بالشي‏ء المقدور للمكلّف، فإذا قلنا: إنّ الطلب هو الترك يكون قد تعلّق الطلب وهو شي‏ء وجودي بالترك وهو شي‏ء عدمي غير مقدور للمكلّف تحصيله، لأنّ التكليف - بناءً على هذا - يطلب من المكلّف تحصيل عدم الفعل وهو (أعني عدم الفعل) حاصل منذ الأزل، وتحصيل الحاصل محال.
واُجيب عن هذا الإشكال بأنّ المطلوب من المكلّف هو بقاء العدم مستمرا، أي على المكلّف أن لا يفعل المنهي عنه فيقطع استمراريته.
يقول الرازي في (المحصول) (2) انّه (يعني المكلّف) كما يمكنه فعل الزنى (مثلا) فكذلك يمكنه أن يترك الفعل على عدمه الأصلي وأن لا يغيّره، فعدم التغيير أمر مقدور له فيتناوله التكليف.
وقال الميرزا القمّي في (القوانين) بعد اختياره أنّ المطلوب بالنهي هو الترك مستدلا على مختاره ورادّا على الإشكال المذكور: لنا: صدق الامتثال عرفا بمجرد ترك العبد ما نهاه المولى عنه، مع قطع النظر عن ملاحظة أنّه كان مشتاقا إلى الفعل فكفّ نفسه عنه.
فإن قلت: العدم الأزلي سابق، ويمتنع التأثير فيه، للزوم تحصيل الحاصل، مع أنّ أثر القدرة متأخّر عنه.
قلت: الممتنع هو إيجاد العدم السابق لا استمراره، وأثر القدرة يظهر في الاستمرار، فإذا ثبت إمكان رفعه باتيان الفعل فيثبت إمكان إبقائه باستمرار الترك إذ القدرة بالنسبة إلى طرفي النقيض متساوية وإلا لكان وجوبا وامتناعا.
وتخلّصا من الإيراد والردّ المذكورين عدل متأخّرو المتأخّرين والمعاصرون من أصحابنا الإماميّة إلى القول بأنّ معنى النهي هو الزجر عن الفعل، كما انّ معنى الأمر هو البعث إلى الفعل.
ومن البديهي أنّ الزجر عن الفعل يلزمه طلب ترك الفعل كما أنّ البعث إلى الفعل يلزمه طلب الإتيان بالفعل.
ولكن تبقى الملاحظة المنهجيّة قائمة، وهي أنّ أمثال هذه المسائل لا يرجع فيها إلى النظريات الفلسفيّة أو الاُخرى الكلامية لأنّها خطابات شرعيّة سلك فيها الشارع المقدّس طريقة الناس في خطاباتهم وحواراتهم، فكان المطلوب منهجيا أن يرجع فيها إلى الفهم العرفي.
فما الذي يفهمه العرف الاجتماعي من النهي؟
عندما يقال: (لا تشرب الخمر) فإنّ الذي يفهمه العرف الاجتماعي من هذا الخطاب هو أنّ المخاطب ممنوع من شرب الخمر، أي مطلوب منه الامتناع عن شرب الخمر.
وهذا يكفينا في فهم البلاغات الشرعيّة.
أمّا ما رأيناه من الأخذ بمعطيات علم الكلام لا مبرّر له هنا لأنّه ينأى بالفكرة عن الواقع، ويربك ارتباط النصّ بالسلوك الفردي والاجتماعي.
وهذه إحدى المسائل التي وعدت بالوقوف عند بعضها لنتبيّن عمق تأثّر اُصول الفقه بطريقة المتكلّمين التي نحن في غنىً عنها إذا ما أخذنا بالمنهج الاُصولي - اللغوي، أو المنهج الاُصولي - الاجتماعي.


المفاهيم
تمهيد:
من الظواهر اللغوية وجود تراكيب لفظيّة ذات دلالتين في آن واحد، تستفاد إحداهما من نصّ عبارة التركيب وبشكل مباشر، والاُخرى من إشارة التركيب إليها، أي انّها تستفاد من التركيب اللفظي، ولكن بشكل غير مباشر.
ومن أقدم من تناول هذه الظاهرة اللغوية بالبحث المنطقيون الإغريق. ففي المنطق الارسطي قسّموا الدلالة الوضعيّة اللفظيّة(الدلالة اللغوية) إلى ثلاثة أقسام: دلالة التطابق ودلالة التضمّن ودلالة الإلتزام.
ونصّوا على انّ الدلالتين الأوّليين (التطابق والتضمّن) تدلّ عليها العبارة، ويستفادان منها بشكل مباشر.
أمّا الدلالة الثالثة (الإلتزام) فلا تستفاد من حاقّ العبارة، وإنّما تشير إليها العبارة إشارة واضحة بواسطة العلاقة (اللزوم) بينها وبين دلالة العبارة، وقد تقدّم هذا على نحو التفصيل في مبحث الدلالة.
ويوقفنا هذا على أنّ هذه الظاهرة من الظواهر اللغوية الاجتماعية العامّة.
وبتعبير علمي: انّ دلالة الألفاظ تتنوّع إلى ظاهرتين:
اُولاهما: وهي الأكثر عددا وشيوعا أن يحمل التركيب دلالة واحدة، قد تكون حقيقيّة وقد تكون مجازية.
وثانيتهما: وهي الأقل رقما وانتشارا أن يحمل التركيب دلالتين، تستفاد إحداهما من عبارته، وتستفاد الاُخرى من إشارته إليها.
وعلى هذا ربّما استطعنا أن نسمّي الاُولى دلالة العبارة، والثانية دلالة الإشارة.
والاُولى في المصطلح المنطقي هي التطابق والتضمّن والثانية هي الإلتزام.
وقد لحظ الاُصوليون وجود هذا التنويع لدلالة الألفاظ في النصوص الشرعيّة من القرآن الكريم والحديث الشريف، ذلك لأنّ المشرّع الإسلامي سار في أساليب ووسائل خطاباته وحواراته سيرة مجتمع الناس في أساليبهم في التعبير ووسائلهم في نقل المعاني.
ولم يشأ الاُصوليون أن يستعيروا من علم المنطق مصطلحاته في هذا التنويع، فوضعوا له مصطلحي (المنطوق) و (المفهوم)، وعنوا بالمنطوق دلالة العبارة، وبالمفهوم دلالة الإشارة، أو قل: رادفوا بين المنطوق اُصوليا والتطابق والتضمّن منطقيّا، وبين المفهوم اُصوليا والإلتزام منطقيّا.
فالمنطوق والمفهوم مصطلحان اُصوليان خالصان في نسبهما الاُصولي، إذ لم يعهد لهما ذكر في المعاجم اللغوية بمعناهما الإصطلاحي الاُصولي، ذلك أنّ النطق في اللغة: التكلّم بالألفاظ (التلفّظ)، والمنطوق: الكلام الملفوظ، أي المؤلّف من الألفاظ.
ولكن لم يقصد منه ذلك في علم الاُصول، وإنّما اُريد به المعنى الذي يحمله الكلام، أي اُريد به المدلول لا الدالّ، وقال بعضهم إنّهما وصفان للدلالة، وله وجه لما سيأتي في التقسيم.
فالمنطوق في اللغة هو اللفظ، وفي الاُصول هو المعنى.
أمّا الفهم فهو في اللغة: الإدراك، والمعنى الذي يفهم من اللفظ بشكل مباشر أو غير مباشر.
وعلميّا: عرف في صحاح المرعشليين بما نصّه  فهم: standingأ- بوجه عامّ: القدرة على الإدراك والتفكير.
ب- وبوجه خاصّ عند ليبتنز(3): الإدراك العقلي في مقابل الإدراك الحسّي.
وبغية أن نستوضح معنى المنطوق ومعنى المفهوم عند الاُصوليين نقول: إنّ بعض النصوص الشرعيّة - كما قدّمت - ذات دلالتين، إحداهما تفهم من اللفظ مباشرةً والاُخرى تفهم منه أيضا ولكن بشكل غير مباشر، بمعنى أنّها تكون ملازمة للدلالة الاُولى ينتقل إلى معرفتها من معرفة الدلالة الاُولى.
وفي ضوء ما ألمحت إليه لابدّ من الاستعانة بعلم المنطق فيما قرّره في موضوع الدلالة الوضعيّة اللفظية (الدلالة اللغوية) من تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: التطابق والتضمّن والإلتزام، ذلك أنّ المعنى المطابقي للفظ، وكذلك المعنى التضمنّي نستفيدهما من حاقّ اللفظ مباشرة، أمّا المعنى الإلتزامي فلا نستفيده من حاقّ اللفظ مباشرةً وإنّما بواسطة معرفة اللزوم أو العلاقة بين المعنى الإلتزامي الذي هو خارج إطار اللفظ (اللازم) والمعنى المطابقي الذي هو مفاد دلالة اللفظ (الملزوم).
ويتمّ هذا بانتقال الذهن من تصوّر الملزوم إلى تصوّر اللازم تصورا بيّنا بالمعنى الأخص ودون أن يحتاج الذهن بعد إدراكه للملازمة أو العلاقة بين المعنيين التطابقي والإلتزامي إلى توسّط مقدّمة عقليّة.
وعلى هدي هذا نعود فنقول:
إنّ ما اصطلح عليه في علم المنطق بالمعنى المطابقي والمعنى التضمنّي هو (المنطوق) في المصطلح الاُصولي.
وما اصطلح عليه منطقيّا بالمعنى الإلتزامي هو (المفهوم) عند الاُصوليين.
وقد اصطلح عليهما بعض الاُصوليين المعاصرين بـ:
-(عبارة النصّ).
- و(إشارة النصّ).
وعرّف الاُولى بقوله: المراد بما يفهم من عبارة النصّ: المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه.
وعرّف الثانية بقوله: فدلالة الإشارة: هي دلالة النصّ على معنى لازم لما يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه  - الشيخ خلاف(4).

الهوامش:
(1)- أبو هاشم: هو عبد  السلام ين محمد بن عبد الوهاب الجبائي(ت321هـ)، من رؤشاء المعتزلة وكبار المتكلمين، له كتاب (العدة) في أصول الفقه.
(2)- 2/304.
(3)- لايبنتز leibniz أعظم فيلسوف ألماني قبل كائط، توفي سنة 1716م وحرف التاء في أسم لايبنتز حرف طفيلي جاء من الترجمة اللاتينية لايبنتيوس.اُنظر:معجم الفلاسفة ط 1 ص 534.
(4)-144-145.
x