(67)
إنجازات أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ واهتماماته في زمن الخلفاء
تركزت نشاطات الإمام في هذه الفترة على الأُمور التالية:
أ: العبادة والعبودية للّه وبالنحو الذي يليق بشأن شخصية مثل علي ـ عليه السَّلام ـ وقد وصلت عبادته إلى درجة انّ الإمام السجاد ـ عليه السَّلام ـ يعتبر عبادته وتهجّده الفريد هو لاشيء بالنسبة إلى عبادة جدّه العظيم.
ب: تفسير القرآن ومعالجة غوامض ومشاكل كثيرة من الآيات وتربية تلاميذ من مثل عبد اللّه بن عباس الذي يعد من أكبر مفسري الإسلام من بين الصحابة.
ج: الإجابة على شبهات وتساؤلات علماء الأديان العالمية لا سيما اليهود والنصارى منهم الذين كانوا يتوافدون إلى المدينة للبحث والاستقصاء حول دين النبي بعد وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وما كانوا يجدون من يجيب تساؤلاتهم سوى علي ـ عليه السَّلام ـ الذي بدت معرفته بالتوراة والإنجيل واضحة من خلال كلامه معهم، ولولا انّ علياً ملأ هذا الفراغ لكان المجتمع الإسلامي يغط في انتكاسة كبيرة. وعندما كان الإمام يقدم أجوبة مفحمة على جميع الشبهات والتساؤلات كان الفرح والإعجاب الكبير يغمران وجوه الخلفاء الجالسين في مكان رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
د: بيان الحكم الشرعي للمواضيع المستحدثة والتي لم يكن لها سابقة في الإسلام أو بأن تكون القضية بقدر من التعقيد والغموض بحيث يعجز القضاة عن الحكم فيها، وتشكل هذه النقطة جانباً هامّاً من حياة الإمام، فلو لم تكن هناك شخصية كالإمام علي ـ عليه السَّلام ـ بين الصحابة، تلك الشخصية التي هي أعلم الأُمّة بشهادة واعتراف الرسول الكريم وأعرفها بأُصول القضاء والتحكيم لظلت هناك قضايا كثيرة عالقة من صدر الإسلام بلا حلول.
(68)
وقد كانت هذه المواضيع المستحدثة تستوجب أن يكون هناك إمام واع معصوم كالنبي له معرفة كبيرة بأُصول وفروع الدين الإسلامي بين الناس بعد رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ليحمي علمه الواسع ومعرفته الكبيرة الأُمّة من الاتجاهات المنحرفة وعمليات الأخذ بالقياس والظن والحدس، ولم تتوفر هذه الموهبة العظيمة إلاّفي شخص أميرالمؤمنين باعتراف جميع أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، وقد نقلت كتب الحديث والتاريخ بعضاً من قضاء الإمام واستخدامه الرائع والبديع للآيات القرآنية وقد جمع بعض العلماء قسماً منها في كتا ب مستقل.(1)
هـ. تربية مجموعة من الذين كانوا يحملون ضميراً حياً وفطرة سليمة وروحاً مستعدة للسلوك الديني حتى يمكنهم الوصول إلى مدارج الكمالات المعنوية العالية والتعرف على مالا يمكن التعرف عليه بالمعرفة الظاهرية إلاّبالرؤية القلبية والعين الباطنية.
و. العمل والسعي لأجل ضمان معيشة شريحة كبيرة من الفقراء والمساكين، وقد وصل الأمر بالإمام إلى أن يغرس الأشجار ويحفر القنوات ثمّ يوقفها ويجعلها وقفاً في سبيل اللّه.
ز. عندما كانت الخلافة تصل إلى طريق مسدود في القضايا السياسية وبعض القضايا والمشاكل الأُخرى كان الإمام ـ عليه السَّلام ـ المستشار الوحيد والمعتمد الذي يعالج المشاكل بموضوعية خاصة مع حلول واضحة، وقد جاءت بعض الاستشارات في نهج البلاغة وكتب التاريخ.
1-ومنها على سبيل المثال كتاب قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ من مؤلّفات العالم الكبير الشيـخ محمـد تقـي التستـري، وكتاب قضـاء علـي بن أبي طالـب ـ عليه السَّلام ـ تأليـف السيـد إسماعيـل رسول زاده.
(69)
الإمام علي ومعالجة مشاكل الخلفاء العلمية والسياسية
يشهد التاريخ بأنّ أبا بكر وعمر كانا يراجعان الإمام في القضايا السياسية والدينية وتفسير القرآن والأحكام الفقهية للإسلام طيلة فترة خلافتهما وكانا يفيدان من استشارته وإرشاداته وعلمه بأُصول الدين وفروعه بشكل تام ونورد بعض الأمثلة من ذلك ممّا سجلته كتب التاريخ:
الحرب مع الروم
كان أحد أعداء الحكومة الإسلامية الفتية هي الامبراطورية الرومية التي كانت تشكل خطراً للحكومة الإسلامية من ناحية الشمال دائماً، وكان الرسول الكريم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وحتى اللحظات الأخيرة من حياته مدركاً لهذا الخطر، وقد أرسل في السنة الثامنة من الهجرة جيشاً بقيادة جعفر الطيار إلى ضفاف الشام غير انّ هذا الجيش الإسلامي عاد إلى المدينة بلا جدوى وقد فقد ثلاثة من القادة ومجموعة من المقاتلين، وانطلق رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بجيش جرّار نحو تبوك في السنة التاسعة، ولكنّه عاد إلى المدينة من غير مواجهة مع العدو، وكان لهذه الحركة نتائج بارزة وكبيرة مذكورة في التاريخ، ورغم كلّ ذلك كان احتمال هجوم الروم يقلق رسول اللّه دائماً، ولهذا أعدّ جيشاً من المهاجرين والأنصار في أيامه الأخيرة وهو على فراش الموت لينطلق باتجاه ضفاف الشام. لم يغادر هذا الجيش المدينة لسبب من الأسباب وفي حين كان الجيش الإسلامي معسكراً في أطراف المدينة توفي رسول اللّه والتحق بالرفيق الأعلى بعد ذلك وبعد أن أقرّ الجو السياسي الخلافة في يد أبي بكر عاشت المدينة جواً هادئاً بعد الأزمة.
كان أبو بكر الذي تولّى القيادة متردّداً في تنفيذ أمر النبي لمحاربة الروم
(70)
كثيراً، ولهذا استشار جماعة من الصحابة وقدّم كلٌ منهم رأياً لم يقتنع به، وفي النهاية استشار الإمام في ذلك فشجعه لتنفيذ أمر النبي وقال ـ عليه السَّلام ـ : إن فعلت ظفرت فاستبشر الخليفة لتشجيع الإمام و قال: بشّرت بخير.(1)
الخليفة الثاني واستشاراته السياسية للإمام
كان الإمام مستشاراً هاماً في معالجة كثير من المشاكل السياسية والعلمية والاجتماعية في زمن الخليفة الثاني وسنشير إلى مثال واحد من مجموع المرات العديدة التي استعان الخليفة الثاني فيها بفكر الإمام في القضايا السياسية. وقعت في السنة الرابعة عشرة من الهجرة حرب طاحنة بين جيش الإسلام و بين جيش الفرس في القادسية وانتهت بانتصار المسلمين وقتل رستم فرّخ زاد القائد العام للقوات الفارسية مع مجموعة من المقاتلين وانضم بهذا الانتصار جميع أرجاء العراق تحت لواء الإسلام واستولى المسلمون على المدائن التي كانت مركزاً للملوك الساسانيين وتراجع قادة الجيش الفارسي إلى داخل أراضيه.
وخشي المستشارون والعسكريون الفرس من أن يزحف الجيش الإسلامي إلى داخل أراضيهم ويستولي على جميع أرجاء البلاد بالتدريج، ولأجل مواجهة هذا النوع من الهجوم الخطير أعدَّ يزدجرد ملك فارس جيشاً قوامه مائة وخمسون ألف مقاتل بقيادة فيروزان حتى يصد أي هجوم مفاجئ، وإذا ساعدت الظروف يبدأ هو بالهجوم.
وكتب سعد بن أبي وقاص القائد العام للقوات الإسلامية [وعلى رواية عمار بن ياسر الذي استولى على الكوفة] رسالة إلى عمر يطلعه فيها على تحشدات العدو
1-تاريخ اليعقوبي:2/133.
(71)
وأضاف انّ جيش الكوفة مستعد لخوض المعركة وقبل أن يبدأنا العدو بالحرب نداهمه لإرعابه.دخل الخليفة المسجد واستدعى كبار الصحابة.
وأطلعهم على ما ينويه من ترك المدينة والانطلاق نحو مكان بين البصرة والكوفة ليقود الجيش من هناك، فقام طلحة في هذه الأثناء وشجّع الخليفة على ذلك وقال كلاماً تفوح منه رائحة التملّق جيداً، ثمّ قام عثمان بعد ذلك ولم يكتف بحثّ الخليفة على الانطلاق فقط، بل أضاف ان أكتب إلى جيش الشام واليمن بأن ينطلقوا جميعاً ويلحقوا بك حتى يمكنك مواجهة العدو بهذا الجيش الكبير . وحينئذ قام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ و قال:
«إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة وهو دين اللّه الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه حتى ما يبلغ وطلع حيثما طلع ونحن على موعود من اللّه واللّه منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا والعرب اليوم و إن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فانّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك ممّا بين يديك.
إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأمّا ما ذكرت من
(72)
عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنا نقاتل بالنصر والمعونة».(1)
استجاب عمر لكلام الإمام بعد سماعه ولم يذهب.(2)
ونظراً لهذه المعالجة والحلول قال عمر: أعوذ باللّه من مشكلة ليس لها أبو الحسن.(3)
1-نهج البلاغة: الخطبة 146.
2-الكامل في التاريخ:3/8 ، تاريخ الأُمم والملوك، الطبري:4/273; البداية والنهاية:7/107.
3-راجع لمزيد الاطلاع: الاصابة في تمييز الصحابة:2/509; الاستيعاب في معرفة الأصحاب:3/39; و كتاب تحليل لمواقف علي بن أبي طالب السياسية(بالفارسية) تأليف أصغر قائدان، الفصل الثالث والرابع، نشر أمير كبير.
(73)
5. من الخلافة إلى الشهادة
كيف بويع أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ
أثار عثمان غضب الناس جرّاء فساده المالي والإداري وتصرّفه غير الشرعي في أموال المسلمين، وهكذا تنصيب بني أُميّة وأقربائه الغير مؤهلين في مناصب عالية، وتسليطهم على مقدّرات الأُمة وبالتالي تنحية الشخصيات الجديرة والمؤهلة من المهاجرين والأنصار، وحيث إنّه لم يستجب لاعتراضات ومطاليب المسلمين المتكررة والمشروعة فيما يتعلق بتنحية عمّـاله وولاته الفاسدين ثارت الثورة على حكومته و انتهت بقتله، ثمّ بايع الناس علياً على أنّه خليفة على المسلمين، ومن هنا كانت حكومة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ التي وصلت إلى الحكم بعد مقتل عثمان حكومة ثورية وحصيلة انتفاضة شعبية في وجه فساد وظلم الحكومة السابقة.
إنّ أحد نماذج فساد حكومة عثمان هو إعادة الحكم بن أبي العاص وابنه مروان الذي طرده النبي إلى الطائف للمدينة، وهذا ممّا لم يجرأ حتى أبو بكر وعمر على فعله في خلافتهما، وزوّج مروان ابنته وولاّه مسؤولية ديوان الخلافة ممّا أثار غضب الناس وحوصر بيت عثمان مدة تسعة وأربعين يوماً من قبل الثوريين.(1)وكلّما حاول عثمان الخضوع واللين كان مروان يثير غضب الناس أكثر، و في النهاية داهم المسلمون بيت عثمان و أردوه قتيلاً.
1-المسعودي، مروج الذهب:2/346.
(74)
مكانة علي المتألّقة
الشيء الذي كان يفكر به الثوريون هو تنحية عثمان عن الخلافة على الرغم من أنّ اسم علي ـ عليه السَّلام ـ كان جارياً على الألسن طيلة فترة الحصار المضروب على بيت عثمان، ولكن لم يكن لديهم خطة واضحة للمستقبل لذلك اصطدموا بعد مقتل الخليفة بمشكلة اختيار الخليفة.
ومن ناحية أُخرى كان قد توفّي اثنان من أعضاء الشورى الستة، وهما :عبد الرحمان بن عوف و عثمان، و لم يكن هناك من بين الأربعة الموجودين ـ علي و طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ـ من هو أحب للناس وأكثر شعبية وفضلاً وماضياً متألقاً في الإسلام من علي ـ عليه السَّلام ـ ، وهو ما جرّ الناس إلى شخصيته ـ عليه السَّلام ـ .
وبعد تقييم ودراسة الظروف والأوضاع وملاحظة التغييرات التي حصلت في زمن عثمان، وهكذا بعد ابتعاد المسلمين وانفصالهم الكبير عن خط الإسلام الحقيقي الأصيل أيقن علي ـ عليه السَّلام ـ بأنّه من الصعب جداً ممارسته الحكم بعد ذاك الفساد والانحراف المتخلّفين من حكومة عثمان، و قد لا يحتمل الناس وخاصة كبار القوم تعديلاته وإصلاحاته التي يرمي إليها ولا يطيقون عدالته، و لهذا السبب رفض الخلافة عندما عرض عليه الثوريون بيعتهم.
قد اتّفق المؤرخون على أنّ عثمان قتل في سنة 35 هجرية ولكنّهم اختلفوا في يوم ذلك.(1)
وفي الوقت ذاته انّ المتيقن به هو وجود أربعة أو خمسة أيّام فصلت بين
1-يرى اليعقوبي ان قتل عثمان تمّ في 18 ذي الحجة سنة 35(تاريخ اليعقوبي:2/165) غير انّ المسعودي يقول انّه قتل لثلاثة أيام بقين من ذي الحجة(مروج الذهب:2/346).
(75)
مقتل عثمان وبيعة الناس لعلي ـ عليه السَّلام ـ .(1)
وكان الناس في هذه المدة يعيشون حالة من الفوضى والضياع وخلالها كان أصحاب الثورة يراجعون الإمام غير انّه كثيراً ما يبعد نفسه عن الأنظار، وحيث إنّهم كانوا يطالبونه بقبول بيعتهم وهو ما يزال يرى الظروف غير مناسبة لقبول الخلافة وانّ الحجّة لم تتم عليه بهذا الاقتراح قال: «دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وانّ الآفاق قد أغامت والحجة قد تنكرت، واعلموا أنّي وإن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي اسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً».(2)
وحيث قد كثر توافد المسلمين على الإمام ـ عليه السَّلام ـ وازدحامهم عليه واكتظت داره بهم وازداد إصرارهم عليه، تنفيساً عن عناء الاضطهاد السابق وشوقاً إلى العدالة شعر بالمسؤولية ولم ير بداً غير قبول البيعة، وقد ذكر الإمام ـ عليه السَّلام ـ شغف الناس وإقبالهم وإصرارهم عندما طالبوه بالبيعة في عدّة مواضع من نهج البلاغة والتي منها:
«فتداكوا عليّ تداك الإبل الهيم يوم وردها، وقد أرسلها راعيها وخلعت
1-كتب اليعقوبي : استخلف علي يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة 35) وعليه تكون المدة الفاصلة خمسة أيام غير انّ المسعودي يقول: (بايع الناس علياً يوم قتل عثمان ثمّ يقول في صفحة أُخرى: «انّه بويع بعد أربعة أيام من قتل عثمان بيعة عامة» مروج الذهب:2/349ـ 350. و يرى ابن الأثير انّ مقتل عثمان تمّ بتاريخ 18 ذي الحجّة وانّ البيعة لعلي تمت في 25 من ذلك الشهر (الكامل في التاريخ:3/179و194).ويصرح في الصفحة 192 بأنّ أهل المدينة قد عاشوا بعد مقتل عثمان خمسة أيام من الضياع وكانت المدينة تدار من قبل شخص يدعى غافقي بن حرب.
2-نهج البلاغة : الخطبة 92.
(76)
مثانيها حتى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض ولدي، وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم».(1)
ويجسد لنا في موضوع آخر ذلك المشهد المثير لازدحام الناس عليه من كلّ جانب ويرسم لوحة حيّة تعبر عن شدة فرح الناس وشوقهم وشغفهم بعد تلقيهم نبأ قبول الخلافة.
ويقول:«وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووُطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل».(2)
وقد تحدث الإمام في خطبته عن إقبال الناس عليه بحرارة وسرور عن أسباب قبول الخلافة قائلاً:
«... فما راعني إلاّوالناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ الحسنان(3)وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنّهم لا يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: ( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين).
بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور
1-نهج البلاغة : الخطبة 54.
2-نهج البلاغة : الخطبة 229.
3- نص كلام الإمام هو (وطئ الحسنان) الذي قد يعني: الحسن والحسين، ولكن قد فسر البعض الحسن بالابهام. راجع شرح نهج البلاغة:1/200.
(77)
الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».(1)
إنّ الحكم الإسلامي الذي مارسه علي ـ عليه السَّلام ـ على الرغم من قصر عمره إلاّ انّه كان نموذجاً كاملاً للحكومة الإسلامية التي أشاد صرحها النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في المدينة.
وعلى الرغم من أنّ أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ لم يصل إلى كافة أهدافه الإصلاحية التي نادى بها نتيجة المؤامرات الداخلية التي حيكت ضده، إلاّ انّه استطاع بلا شك أن يطرح نموذجاً ناجحاً للحكومة وفق تعاليم الإسلام ومعاييره.
إنّ استعراض مزايا وخصائص حكومة علي ـ عليه السَّلام ـ يخرجنا عن نطاق هذا البحث المكثف، إلاّ انّنا نكتفي بلمحة سريعة للخطوط العريضة لسيرته ـ عليه السَّلام ـ في الحكم باعتبارها شاخصاً بارزاً ومثمراً للغاية.
1. أشار علي ـ عليه السَّلام ـ إلى أنّ فلسفة قبوله للخلافة هي لأجل إجراء العدالة الاجتماعية في المجتمع على كافة المستويات لا سيما الاقتصادية، والاستفادة من الإمكانات العامة، ومكافحة الفوارق الطبقية الكبيرة في المجتمع، وقد أكد على أنّ اللّه أخذ على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم.
2. انّ رؤية علي ـ عليه السَّلام ـ إلى الحكم تتلخص في أنّ الحكم والمنصب ليس إلاّ وسيلة لخدمة الناس وإحقاق الحقّ ودحض الباطل، لا انّه طعمة تدر الأرباح، وقد التزم الإمام بهذا المنهج إلى أبعد الحدود، حتّى تراه يجتنب عن إعطاء المهام الحساسة كالولاية وبيت المال إلى المتعطشين للسلطة كطلحة والزبير، ولهذا
1-نهج البلاغة، الخطبة3.
(78)
السبب فقد أجّجوا نائرة الفتن ورفعوا لواء العصيان ضدّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ .
3. لقد عاش الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ عند تصدّيه للخلافة غاية الزهد والبساطة في الحياة، كما كان يوصي عماله بالاعتدال والعزوف عن زخارف الدنيا وزبرجها وهذه الخصوصية أي عزوفه عن زخارف الدنيا هي من أبرز خصائصه الذاتية وسيرة حكمه.
4. انّ المعيار الذي أكد عليه الإمام ـ عليه السَّلام ـ في انتخاب الولاة والعمال، هو أن تكون لهم سوابق في الإسلام، وتقوى، وكفاءة في إدارة سدة الحكم، والتزام بقيم الإسلام وغيرها من المعايير.
والشيء الذي لم يخطر ببال الإمام أبداً هو القرابة والعشيرة، كما يتضح ذلك حينما نصب (51) شخصاً كولاة وممثلين عنه في الولايات والإمارات المختلفة، فتجد فيهم من المهاجرين والأنصار، وأهل اليمن، والهاشمي وغير الهاشمي، والعراقي والحجازي، الشاب والكهل، ولا تجد في هذه القائمة أثراً لأسماء الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية و عبد اللّه بن جعفر (زوج زينب ـ عليها السَّلام ـ ) على الرغم من تقارب أعمارهم وتمتعهم بكفاءة عالية في إدارة دفة الحكم و تصدي المسؤوليات، ويعلم ذلك من خلال المهام الصعبة التي أوكلت إليهم في الحروب ومواقع الخطر إلاّ انّ الإمام كان يحذر من تعيينهم في المناصب الحكومية.
5. لم يكن الإمام يعتقد وخلافاً لمعظم الزعماء والرؤساء بأنّ الغاية تبرر الوسيلة ولم يتوصل إلى أهدافه المقدسة النبيلة بوسائل غير مشروعة قط، كما يظهر من جوابه لما عوتب على التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة فيه من غير تفضيل أولى السابقات والشرف.
«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، واللّه لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً! ولو كان المال لي لسوَّيت
(79)
بينهم، فكيف وإنّما المال، مال اللّه».(1)
في حين انّ خصمه معاوية توصل بكلّ وسيلة غير مشروعة مهما كان الثمن للوصول إلى م آربه الشيطانية، وقد ساد الاعتقاد عند جماعة سذج انّ هذه من علامات ذكاء معاوية ودرايته وتفوقه على الإمام ـ عليه السَّلام ـ في السياسة، لذا تجد الإمام، يقول:
«واللّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة».(2)
6. كان الإمام ـ عليه السَّلام ـ يراعي الأُصول والضوابط في تعامله مع أعدائه ومخالفيه، دون أن يصادر حرياتهم إلاّ إذا أجّجوا نائرة الفتن، ففي الأشهر الأُولى من خلافة الإمام ـ عليه السَّلام ـ همّ طلحة والزبير بالخروج من المدينة بعد أن يأسا منه في الحصول على الولاية وأقبلا على الإمام ـ عليه السَّلام ـ و قالا: إنّا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.
فأذن لهما الإمام ـ عليه السَّلام ـ ، و روي أنّ علياً ـ عليه السَّلام ـ قال لبعض أصحابه: واللّه ما أرادا العمرة ولكنّهما أرادا الغدرة.(3)
ويعكس هذا النص التاريخي انّ الإمام لم يصادر حريتهما قبل أن يرفعا لواء العصيان على الرغم من علمه ـ عليه السَّلام ـ بما يضمران له.
وأيضاً لما خالف الخوارج الإمام ـ عليه السَّلام ـ إثر جهلهم وعنادهم وسوء فهمهم اعتزلوا معسكر الإمام حين رجوعهم من صفين وأقاموا لهم معسكراً في النهروان فخاطبهم الإمام ـ عليه السَّلام ـ ـ بعد ان كانت مخالفتهم سياسية ولم تتعدى القيام بعمليات
1-نهج البلاغة، الخطبة126.
2-نهج البلاغة، الخطبة200.
3-تاريخ اليعقوبي:2/180.
(80)
عسكرية وتهديد الأمن ـ بقوله:
«أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتّى تبدؤونا».(1)
وبهذه الصورة فقد سايرهم الإمام ـ عليه السَّلام ـ من منطلق القوة، إلى أن قاموا بنشر الرعب والخوف والإخلال بالأمن حينها اضطر الإمام ـ عليه السَّلام ـ إلى استعمال القوة بغية القضاء على فتنتهم.
7. على الرغم من أنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ كان ينصب عمالاً وولاة صالحين وكفوئين إلاّ انّه في الوقت نفسه كان يجعل عليهم عيوناً لمراقبة تحركاتهم، و أدنى خطأ يصدر منهم فانّها تنقل إلى الإمام ـ عليه السَّلام ـ كي يتخذ الاجراءات المناسبة في حقّهم.
ومن أبرز تلك النماذج هو كتاب تقريع بعثه الإمام ـ عليه السَّلام ـ إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة و قد بلغه انّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.(2)
وجدير بالذكر انّ هذه الحادثة وقعت في الشهور الأُولى من خلافته ـ عليه السَّلام ـ ، لأن ابن حنيف كان عامله على البصرة قبل حرب الجمل التي نشبت عقب شهور ستة من تسلم الإمام ـ عليه السَّلام ـ لمقاليد الخلافة، وفي هذه الفترة المضطربة فانّ الإمام قد انشغل بترتيب الوضع الداخلي بعد الفوضى التي سادت البلاد من جراء مقتل عثمان، إلاّ انّ هذا كلّه لم يمنع الإمام ـ عليه السَّلام ـ من بعث الكتاب المذكور إلى عامله تقريعاً له على ما صنع.
القتال في ثلاث جبهات
حمّلت خلافة الإمام ـ عليه السَّلام ـ وقيادته التي ساد فيها العدل وإحياء المبادئ
1-تاريخ الأُمم والملوك:6/41، حوادث سنة 37.
2-نهج البلاغة: الكتاب 45.
(81)
والقيم الإسلامية الأصيلة جماعتها عبأ ثقيلاً ممّا أدى إلى تشكيل خط معارض لحكومته، وانتهت هذه المعارضات إلى حدوث ثلاث حروب مع الناكثين والقاسطين والمارقين سنمرّ على كل منها مروراً سريعاً.
قتال الناكثين
وقد كان سبب هذه الحرب مع الناكثين (ناقضي العهد) هو انّ طلحةوالزبير اللّذين بايعا علياً قد طلبا منه أن يولّيهما اعمال البصرة والكوفة، ولكن الإمام رفض ذلك، و تركا المدينة سراً والتج آ إلى مكة وجيّشاً جيشاً بأموال بيت المال المختلس من قبل بني أُمية وانطلقوا نحو البصرة واستولوا عليها.
فتحرّك علي ـ عليه السَّلام ـ تاركاً المدينة للقضاء عليهم، وحدثت حرب طاحنة قرب البصرة انتهت بانتصار عليّ وهزيمة الناكثين، وهذه هي حرب الجمل التي لها مساحة كبيرة في التاريخ، اندلعت هذه الحرب سنة 36 هجرية.
قتال القاسطين
كان معاوية قد أعدّ ومنذ فترة سبقت خلافة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ مقدّمات الخلافة لنفسه في الشام، وما إن استلم الإمام الخلافة عزله عن الشام ولم يرض أن يقرّه عليها لحظةواحدة، وكان حصيلة هذا النزاع هو أن تقاتل جيش العراق وجيش الشام في أرض تدعى صفين وكان انتصار لجيش علي ـ عليه السَّلام ـ لولا معاوية وخديعته التي أحدثت تمرداً بين جيش الإمام. وفي النتيجة وبعد الضغط الكبير على الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ من قبل جيشه رضخ لتحكيم إبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص لكي ينظروا في مصالح الإسلام والمسلمين يبديا رأيهما،وقد كان الضغط على أمير المؤمنين لأجل قبوله بالتحكيم بدرجة انّه لو لم يقبل به لأودى ذلك إلى
(82)
موته ولواجه المسلمون أزمة كبيرة.
وبعد أن حان موعد إعلان رأي الحكمين خدع عمرو بن العاص أبا موسى وهو ما أدّى إلى إفشاء خطة معاوية الشنيعة بين الجميع، وبعد ذلك خرج بعض من المسلمين الذين كانوا في صف الإمام عليه وانتقدوه لقبوله التحكيم الذي فرضوه هم أنفسهم عليه. وقد حدث قتال القاسطين عام 37 هجرية.
قتال المارقين
والمارقون هم أُولئك الذين أجبروا علياً على قبول التحكيم، وندموا بعد عدّة أيام على ذلك، وطلبوا منه أن ينقض العهد من جهته، غير انّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ لم يكن بذلك الشخص الذي ينقض عهده، ولهذاخرجوا على الإمام ووقفوا ضده وقاتلوه في النهروان وقد عرفوا بالخوارج لذلك. وانتصر الإمام في هذه الحرب غير انّ الأحقاد ظلّت دفينة في النفوس. اندلعت هذه الحرب في سنة 38، وعلى رأي بعض المؤرّخين في سنة 39 هجرية.
وأخيراً تضرج الإمام ـ عليه السَّلام ـ بدمه على يد أحد المارقين وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي في التاسع عشر من رمضان المبارك عام 40 للهجرة أي بعد أربع سنوات و بضعة أشهر من حكوم الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ .(1)
***
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أنّ سيرة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ متعددة الأبعاد والجوانب، فمن العسير بمكان الإلمام بها، و لا ندعي انّنا قدمنا للقراء الأعزاء شيئاً جديداً وإنّما استعرضناها بهدف الحفاظ على تسلسل الموضوعات.
1-اعتمد في كتابة هذا الفصل مضافاً إلى المصادر المذكورة في الهامش على كتاب (بحث معمّق حول حياة علي ـ عليه السَّلام ـ ) تأليف الأُستاذ الكبير جعفر السبحاني.
(83)
الإمام الحسن المجتبى ـ عليه السَّلام ـ
* ملاذ المساكين
*السخاء النادر
* دراسة أسباب الصلح مع معاوية
* دوافع الصلح عن لسان الإمام
* لماذا صالح الحسن ـ عليه السَّلام ـ وثار الحسين ـ عليه السَّلام ـ
(84)
(85)
نبذة مختصرة عن حياة الإمام ـ عليه السَّلام ـ
ولد إمام الشيعة الثاني ـ و هو الثمرة الأُولى لزواج علي الميمون من كريمة النبي ـ في النصف من شهر رمضان للسنة الثالثة من الهجرة في المدينة. (1)لم يدرك الحسن بن علي من حياة جدّه العظيم إلاّ سنين قليلة حيث كان في حوالي السابعة من عمره عندما توفّـي النبي، وقد عاصر أباه أمير المؤمنين حوالي ثلاثين عاماً بعد جدّه، وتولّى الإمامة بعد استشهاد علي عام أربعين مدة 10 سنوات، واستشهد ـ و بمؤامرة من معاوية ـ مسموماً عام 50هـ في الثامنة والأربعين من عمره، ودفن في مقبرة البقيع بالمدينة.
ملاذ المساكين
يتحمّل الأثرياء في الدين الإسلامي مسؤولية كبيرة تجاه الفقراء والمساكين في المجتمع، وبموجب الأواصر الروحية العميقة والعلاقات الأخوية الدينية المترسّخة بين المسلمين يجب عليهم بذل قصارى جهدهم لسد حاجات الفقراء والمساكين في المجتمع، ولم يكتف نبي الإسلام وأئمّة ديننا بالتأكيد على ذلك فقط، بل كان كلّ واحد منهم مثالاً بارزاً ورائعاً لحب الإنسانية ورعاية المحتاجين. لم
1-مناقب ابن شهر آشوب:4/28; الإرشاد، المفيد: 187; أُسد الغابة:2/10; الإصابة في تمييز الصحابة:1/328.
(86)
يكن الإمام الثاني يتمتع بمكانة راقية من ناحية العلم والتقوى والزهد والعبادة فقط، بل كان أيضاً في قمّة السخاء والجود، وأشهر من نار على علم في الاعتناء بالمساكين والفقراء في عصره. كان وجوده باعثاً على الشعور بالأمان في القلوب المنكسرة وملاذاً للفقراء والمساكين وبارقة أمل للمستضعفين، وما عاد فقير طرق بابه يوماً خالي الوفاض من عنده، ولا رجع مهموم منكسر القلب حمل شكواه إليه إلاّوقد وضع له بلسماً على جراحه، وكان كثيراً ما يحدث انّ الإمام يبادر هو بتقديم يد العون للآخرين وسد حاجاتهم قبيل أن يسأله الفقير ويتصبّب منه عرق الحياء وتبدو عليه مذلّة السؤال.
وكتب السيوطي في تاريخ الخلفاء: كان الحسن له مناقب كثيرة، سيداً حليماً، ذا سكينة ووقار وحشمة، جواداً ممدوحاً.(1)
درس وعبرة
كان الإمام الحسن المجتبى ـ عليه السَّلام ـ يهب الفقراء مبالغ طائلة دفعة واحدة أحياناً ممّا يثير استغراب الآخرين، والذي يبعث الإمام على ذلك هو انّه يريد أن يغني الفقير إلى الأبد بحيث يستطيع أن يسد جميع حاجاته ويعيش حياة كريمة أو يستثمرها لصالحه. ولم يكن الإمام ليرضى بإعطاء الفقير مالاً ليوم واحد يسد حاجته به بصعوبة بالغة، لأجل ألاّ يضطر إلى مد يده إلى هذا وذاك لكي يضمن الكفاف لنفسه.
أهل بيت العلم والفضيلة
مرّ رجل بعثمان بن عفان يوماً وهو قاعد على باب المسجد، فسأله، فأصر له
1-تاريخ الخلفاء، السيوطي، ص 189.
(87)
بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني، فقال له عثمان: دونك الفتية الذين ترى، وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، فمضى الرجل نحوهم حتى سلّم عليهم وسألهم، فقال له الحسن ـ عليه السَّلام ـ :«يا هذا انّ المسألة لا تحل إلاّفي إحدى ثلاث: دم مفجع، أو دين مقرع، أو فقر مدقع، ففي أيّها تسأل؟» فقال الرجل في وجه من هذه الثلاثة، فأمر له الحسن ـ عليه السَّلام ـ بخمسين ديناراً، وأمر له الحسين بتسعة وأربعين ديناراً ، وأمر له عبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين ديناراً، فانصرف الرجل، فمرّ بعثمان فقال له: ماصنعت؟ فقال: سألتك، فأمرت بما أمرت ولم تسألني فيما أسأل، وانّ صاحب الوفرة ـ الحسن ـ لمّا سألته سألني فيما أسأل، فأعطاني كذا والثاني والثالث كذا وكذا، فقال عثمان: و من لك بمثل هؤلاء الفتية، أُولئك فطموا العلم فطماً وحازوا الخير والحكمة.(1)
السخاء النادر
بذل الإمام الحسن قصارى جهده في الأعمال الخيرية والتي ترضي اللّه تعالى، وقد أنفق أموالاً طائلة في سبيل اللّه، وقد سجّل المؤرّخون والعلماء في حياته المفعمة بالفخر والاعتزاز سخاءه الفريد وعطاءه العظيم وهو ما لم يلحظ في سيرة أيّ من العظماء، ويدلّ ذلك أيضاً على عظمة نفسه وعلى عدم مبالاته بمظاهر الدنيا المخادعة، فقد كتبوا انّه خرج من ماله للّه مرتين، وقاسم اللّه ماله ثلاث مرات حتى كان يعطي نعلاً ويمسك نعلاً.(2)
1-البحار:43/333.
2-تاريخ الخلفاء:190; تاريخ اليعقوبي:2/215; تذكرة الخواص:196; إسعاف الراغبين (في هامش نورالأبصار) ص 179.
(88)
مساعدة غير مباشرة
إنّ طبع الإمام الرقيق وعزة نفسه وكرمها لم يكونا ليسمحا بأن يعود أحد خائباً يائساً من داره، وكان يصادف أحياناً انّه لا يمكنه تقديم المساعدة مباشرة فيحاول أن يقدمها بصورة غير مباشرة، ويقضي للآخرين حاجتهم، كما اتّفق وهو في عنفوان شبابه أيّام الخليفة الثاني أن جاءه رجل فقير وسأله، فصادف عدم وجود شيء من المال في حوزته، و كان ـ عليه السَّلام ـ من ناحية أُخرى يستحيي أن يخرج الرجل من بيته خائباً فقال له:
«أرشدك إلى أمر تنال به ما أردت؟» فقال الرجل :وماهو؟ قال الإمام : «ماتت اليوم ابنة الخليفة، وهو حزين عليها، ولم يعزّيه أحد، فاذهب إليه وعزّه بما سأقوله لك فتنال ما أردت. قال الرجل: وكيف ذلك؟ إن قدمت إليه فقل: «الحمد للّه الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولا هتكها بجلوسها على قبرك». ففعل، وأثّرت هذه الكلمات العاطفية في نفس الخليفة بشكل كبير وقلّلت من حزنه، فأمر له بجائزة، ثمّ سأله: أمنك هذا الكلام؟ قال: لا، علّمنيه الحسن بن علي، فقال الخليفة: صدقت انّه ذو فصاحة وحلاوة في الكلام.(1)
دراسة دوافع صلح الإمام
إنّ من أكثر جوانب حياة الإمام الحسن أهمية وحساسية وإثارة للبحث والجدل، والذي أثار إشكاليات الأصدقاء السطحيين والأعداء المغرضين ومن لا خبرة لهم، هو ذلك الجانب المتعلّق بعملية صلحه مع معاوية واعتزاله الخلافة والحكم الإسلامي اضطراراً.
وقد تساءل البعض وبعد أن درسوا حياة الإمام الحسن وأحداث تلك الفترة
1-حياة الإمام الحسن، القرشي:1/302.
(89)
عن دافعه في صلحه مع معاوية؟ أو لم يبايعه أتباع أبيه علي وشيعته؟! أو لم يكن من الأفضل أن يقوم الإمام الحسن بما قام به الإمام الحسين بعد ذلك ويقف في وجه معاوية وحينها إمّا كان ينتصر أو تزلزل شهادته أركان حكمه؟!
وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة يلزم في البداية أن نلفت الانتباه إلى النقاط الثلاث التالية:
1. جهاد الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ قبل الإمامة
كان الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ ـ كما يشهد التاريخ ـ شخصاً شجاعاً مقداماً وشهماً، لا يعرف الخوف طريقه إليه، ولم يبخل يوماً في تقديم أي تضحية في سبيل تقدّم الإسلام وإعلاء كلمته، وكان دائم الاستعداد للجهاد في سبيل اللّه.
في حرب الجمل
كان الإمام الحسن يقاتل مع أبيه أمير المؤمنين جنباً إلى جنب وفي الخط الأمامي من ساحة القتال في حرب الجمل، وكان يتسابق مع أصحاب علي ـ عليه السَّلام ـ الشجعان البسلاء في ذلك، ويشن على قلب جيش الأعداء هجمات خطيرة وعنيفة.(1)و قبل بدء الحرب دخل الكوفة وبأمر من أبيه برفقة عمار بن ياسر وعدّة من أصحاب أمير المؤمنين ودعا أهلها للمشاركة في القتال.(2)دخلها في الوقت الذي كان أبو موسى الأشعري أحد عمّال عثمان على الكوفة، وقد أبقاه الإمام لأسباب في منصبه وهو يعارض حكومة أمير المؤمنين العادلة ويثبط المسلمين عن
1-مناقب ابن شهر آشوب:4/21.
2-تاريخ اليعقوبي:2/170; الإمامة والسياسة، الدينوري:1/67.
(90)
الاصطفاف في جيش علي لمحاربة الناكثين، غير انّه ورغم ذلك استطاع أن يعبّأ جيشاً تعدى التسعة آلاف مقاتل وبعث بهم إلى ساحة القتال.(1)
في حرب صفين
وقد كان له دور فاعل في تعبئة القوات وإرسال الجيش إلى قتال معاوية في حرب صفين أيضاً، وكان يدعو أهل الكوفة إلى الجهاد بجانب أمير المؤمنين للقضاء على أعداء الإسلام وخونته.(2)
وقد بلغ في استعداده للتضحية في سبيل الحقّ مبلغاً في حرب صفين جعل أمير المؤمنين يطلب من أصحابه أن يمنعوه هو وأخاه الحسين من مواصلة القتال لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .(3)
2 .مناظرات الإمام الحسن الدامغة مع بني أُميّة
لم يتساهل الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ يوماً في بيان الحقّ وإظهاره والدفاع عن الإسلام، فقد كان ينتقد الأعمال الغير إسلامية التي كان يقوم بها معاوية، ويكشف الغطاء عن ماضيه المشين المخزي علناً وبلا مهابة. تشهد له بذلك مناظراته واحتجاجاته المثيرة والدامغة معه هو وأتباعه ومرتزقته، أمثال: عمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم.(4)
وقد وصل به الأمر إلى أن ـ و ذلك بعد عقد الصلح الذي ازدادت به قوّة
1-الأخبار الطوال، ص 144ـ 145; الكامل في التاريخ:3/231.
2-وقعة صفين، نصر بن مزاحم، ص 113.
3-شرح نهج البلاغة: 11/25، الخطبة 200.
4-الاحتجاج: 144ـ 150.
(91)
معاوية وثبت موقعه أكثر من السابق ـ يرتقي المنبر حينما دخل معاوية الكوفة، ويشرح دوافع صلحه ومناقب آل علي بن أبي طالب، ثمّ تطرق بعد ذلك إلى مثالب ومساوئ معاوية، وبحضور الجميع ووجّه إليه نقداً لاذعاً وبصراحة شديدة.(1)
وبعد استشهاد أمير المؤمنين وصلح الحسن عبّأت الخوارج قواتها جميعاً لقتال معاوية، وقد سمع هذا الأخير انّ حوثرة الأسدي ـ وهو من قادة الخوارج ـ قد تمرّد عليه وجنّد له جيشاً. وأرسل معاوية ـ لتثبيت موقعه وتعزيزه ومحاولة منه للتظاهر بأنّ الإمام مطيع لأوامره ـ إلى الحسن و هو في طريقه إلى المدينة رسالة يدعوه فيها إلى القضاء على تمرّد حوثرة، ثمّ يواصل مسيره، فأجاب الإمام : «واللّه لقد كففت عنك، لحقن دماء المسلمين، انّي تركتك لصلاح الأُمّة وما أحب ذاك يسعني، أفأُقاتل عنك قوماً أنت واللّه أولى بالقتال منهم».(2)تظهر في هذه الكلمات روح البسالة والشجاعة لا سيما تلك العبارة التي يحتقر فيها معاوية بكلّ عظمة حيث قال: فإنّي تركتك لصلاح الأُمّة .
3. قانون الصلح في الإسلام
وممّا ينبغي معرفته هو انّه لا يوجد هناك قانون واحد باسم الحرب والجهاد، فكما يأمر الإسلام المسلمين بالجهاد والقتال في ظروف معينة، كذلك يأمرهم بالصلح كلما لم تنفع الحرب في الوصول إلى الهدف. وقد شاهدنا كلتا الحالتين في سيرة نبي الإسلام ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فقد خاض المعركة في بدر وأُحد والأحزاب وحنين، بينما
1-نفس المصدر، ص 156.
2-شرح نهج البلاغة:5/98; الكامل في التاريخ:3/409; كشف الغمة:2/199; الكامل في اللغة والأدب، المبرد:2/195.
(92)
صالح أعداء الإسلام واعتزل الحرب بشكل مؤقت كي يضمن تقدم الإسلام وإعلاء كلمته في ظل ذلك، ومن هذا القبيل كان صلح النبي مع بني ضَمْرة وبني أشجع وأهل مكة في الحديبية أيضاً.(1)
وعليه فكما أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ تصالح مع الأعداء وفقاً لمصالح عليا قد تكون فوق درك بعض الناس وفهمهم في تلك الفترة، كذلك الحسن ـ و باعتبار انّه كان قائداً وإماماً قد أحاط بجميع جوانب الأمر علماً أفضل من أي شخص آخر ـ رأى وبعمق انّ من صلاح الأُمّة الإسلامية وخيرها هو عدم استمرار الحرب، ومن هنا يجب أن لا يكون هذا الأمر مثاراً للنقد والاعتراض، بل ينبغي أن نحسب سيرة الإمام وسلوكه سلوكاً يضاهي سلوك الرسول ويطابقه.
و الآن ولأجل أن تتضح دوافع صلحه ـ عليه السَّلام ـ ونتائجه جيداً يجب علينا أن نتصفح التاريخ وندرس هذا الموضوع في ضوء الوثائق التاريخية الأصيلة.
وينبغي القول عموماً انّ الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ لم يصالح في الواقع بل فُرض الصلح عليه، أي تعاونت الظروف المتردية مع العوامل الأُخرى بحيث أوجدت وضعاً جعل الصلح أمراً ضرورياً مفروضاً على الإمام و لم ير حلاً غير ذلك، بحيث لو كان أي شخص يعيش ظروفه لما كان يختار غير الصلح والهدنة، ذلك انّ الأوضاع والظروف خارج العالم الإسلامي والوضع الداخلي في العراق ومعسكره هو ـ عليه السَّلام ـ ، كلّ ذلك كان يدعو إلى عدم استمرارية الحرب، وسوف ندرس جميع ذلك بالصورة التالية.
1-شرح النهج:5/98; وردّاً على اعتراض أحدهم لصلحه مع معاوية وقد عوّل ـ عليه السَّلام ـ على عقود صلح الرسول قال ـ عليه السَّلام ـ : إنّ ما جعل رسول اللّه يصالح تلك القبائل جعلني أُصالح معاوية أيضاً، البحار:44/2.
(93)
من ناحية السياسة الخارجية
فمن ناحية السياسة الخارجية لتلك الفترة لم تكن الحرب الأهلية الداخلية في صالح العالم الإسلامي، لأنّ الروم الشرقية التي كانت قد تلقّت ضربات قوية من الإسلام كانت تتحيّن الفرصة المناسبة دائماً لضرب الإسلام ضربة انتقامية كبيرة كي تأمن سطوته وسلطته، وعندما وصل نبأ اصطفاف جيشي الإمام الحسن ومعاوية أمام بعضهما إلى قادة الروم، راحوا يعتقدون انّهم حصلوا على أفضل فرصة ممكنة لتحقيق أهدافهم، ولذلك انطلقوا بجيش جرّار للهجوم على العالم الإسلامي لينتقموا من المسلمين، فهل يبقى هناك خيار أمام شخصية مثل الإمام الحسن حملت أعباء رسالة الحفاظ على الإسلام غير الصلح والهدنة الذي وقى العالم الإسلامي من هذا الخطر الكبير وفي هذه الظروف الحرجة، وحتى لو كان ذلك على حساب الضغوط النفسية ولوم الاصدقاء السذج السطحيين؟!
وكتب اليعقوبي المؤرّخ المعروف: ورجع معاوية إلى الشام سنة 41 وبلغه انّ طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف أن يشغله عمّا يحتاج إلى تدبيره وأحكامه، فوجه فصالحه على مائة ألف دينار.(1)
تدلّ هذه الوثيقة التاريخية على أنّه عندما كان النزاع مشتداً بين الطرفين في المجتمع الإسلامي كان عدو المسلمين المشترك على استعداد للهجوم عليه حيث كان العالم الإسلامي عرضة لخطر حقيقي، ولو كانت الحرب تندلع بين الإمام و معاوية، لكانت امبراطورية الروم الشرقية هي المنتصر الوحيد وليس هما، غير انّ هذا الخطر قد اندفع بحكمة الإمام وتدبيره وسعة أُفق نظرته وتسامحه، وقد قال الإمام الباقر ـ عليه السَّلام ـ لشخص اعترض على صلح الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ : «اسكت، فإنّه
1-تاريخ اليعقوبي:2/206.
(94)
أعلم بما صنع لولا ما صنع لكان أمر عظيم».(1)
من ناحية السياسة الداخلية
ما من شكّ في أنّه يجب على كلّ قائد يريد الانتصار على عدوه في ساحة القتال أن يتمتع بجبهة داخلية قوية مستقرة ومتحدة، لأنّ خوض الحرب بدونها سوف لن يجلب سوى الهزيمة الفادحة، وعند دراسة دوافع صلح الإمام الحسن من ناحية السياسة الداخلية والوضع الداخلي يلفت انتباهنا أمر مهم جداً، وهو فقدان تلك الجبهة الداخلية القوية المتحدة حيث لم يكن يتمتع أهل العراق لا سيما الكوفيون منهم بالاستعداد النفسي للقتال ولا بالانسجام والاتحاد في زمن الإمام.
الملل من الحرب
لقد كانت حروب الجمل وصفين والنهروان والحروب الخاطفة التي نشبت بين قوات معاوية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز و اليمن بعد التحكيم قد ولّدت عند أصحاب الإمام علي حنيناً إلى السلم والموادعة، فقد مرت عليهم خمس سنين وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلاّ ليشهروه في حرب أُخرى، وكانوا لا يقاتلون جماعات غريبة عنهم وإنّما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالأمس ومن عرفهم وعرفوه الذين أصبحوا الآن في معسكر معاوية.(2)
1-بحار الأنوار:44/1، و قد أفدنا لكتابة هذا الموضوع مضافاً إلى المصادر السابقة من كتيب يحمل عنوان فلسفة صلح إمام حسن بلا اسم المؤلف والناشر.
2-قد قتل في حرب الجمل أكثر من ثلاثين ألفاً ; تاريخ اليعقوبي:2/172 وقتل في النهروان أربعة آلاف من الخوارج; نفس المصدر:2/182، وكانت خسائر الطرفين في صفين قد بلغت المائة وعشرة آلاف قتيل; مروج الذهب:2/393.
(95)
وقد عبّر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن حرب الفرق الشامية التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق، وتثاقلهم عن الاستجابة للإمام عليّ حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفين.(1)
وكتب الدكتور طه حسين وبعد ذكر أحداث التحكيم ووخامة الظروف عند نهاية حرب صفين:
«وهمّ عليّ بعد ذلك بالمضيّ إلى الشام، ولكن المنافقين من أصحابه أشاروا عليه بالعودة إلى الكوفة ليصلحوا من أمرهم بعد هذه الموقعة وليذهبوا إلى عدوهم بما ينبغي لهم من العدد والعدة، فعاد بهم إلى الكوفة ولكنّه لم يخرج منها وتفرق أصحابه إلى أهلهم وأقبلوا على أعمالهم وزهدوا في الحرب حتى أيأسوا علياً منهم، فجعل يدعوهم ويلحّ في دعائهم، ولكنّهم لا يسمعون منه ولا يستجيبون لدعائه، حتى قال ذات يوم في خطبة له: «لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، حتى قالت قريش ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، للّه أبوهم ومن يكون أعلم بها مني».(2)
فلما استشهد الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ وبويع الحسن ـ عليه السَّلام ـ بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدها وبخاصة حين دعاهم الحسن للتجهّز لحرب الشام حيث كانت الاستجابة بطيئة جداً. وعندما وصل خبر تحرك جيش معاوية باتجاه الكوفة، أمر الإمام الحسن أن يجتمع الناس في مسجدها، ثمّ خطب خطبة، وبعد أن أشار إلى تعبئة قوات معاوية، دعاهم إلى الجهاد في سبيل اللّه، والصمود والثبات في قتال أتباع الضلالة والفئة الباغية، وذكّرهم بضرورة الصبر والتضحية واحتمال
1-ثورة الحسين، محمد مهدي شمس الدين، ص 138ـ 141.
2-مرآة الإسلام، ص 248ـ 250، طه حسين.
(96)
الصعوبات، وبالنظر إلى أنّه كان على علم بمستوى الناس النفسي، قلق ـ عليه السَّلام ـ من عدم استجابتهم لدعوته، وهذا ما حدث بالفعل، فبعد ان أنهى خطبته المثيرة الجهادية، لزم الجميع الصمت ولم يستجب له أحد منهم ولا أيّدوه بكلمة، وقد كان هذا الموقف مؤسفاً ومحزناً إلى درجة انّ أحد أصحاب أمير المؤمنين البسلاء الذي كان حاضراً أنّبهم ووبّخهم ولامهم على هذا التثاقل والتخاذل ووصفهم بأنّهم أبطال مزيّفون جبناء، ودعاهم إلى قتال الشاميين والوقوف مع الإمام جنباً إلى جنب.(1)
ويدلّ هذا الأمر على مدى الخذلان والتثاقل الذي وصل إليه أهالي العراق آنذاك حيث خمدت في نفوسهم نار الحماس والجهاد ولم يكونوا على استعداد لخوض القتال.
وأخيراً وبعد خطب بعض أصحاب الحسن ـ عليه السَّلام ـ الكبار ومحاولاتهم لتعبئة القوات وحث الناس على القتال، انطلق الحسن مع نفر قليل من الكوفيين متجهاً نحو مكان يدعى«النُّخيلة» وعسكر هناك، وبعد انتظار لتعزيز القوات طال عشرة أيام اجتمع في معسكره أربعة آلاف مقاتل. ولأجل ذلك اضطر الإمام إلى العودة للكوفة للمحاولة مرة أُخرى لتعبئة قوات أكثر.(2)
المجتمع المتناقض
مضافاً إلى ذلك لم يكن المجتمع العراقي في تلك الفترة مجتمعاً مترابطاً ومتحداً يسوده الانسجام، بل كان مؤلفاً من شرائح وتيارات عديدة متناقضة بينها
1-مقاتل الطالبيين، الاصفهاني، ص 39; شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد:16/38; أنساب الأشراف، البلاذري، ص 60.
2-صلح الحسن، آل ياسين، ص 102.
(97)
لا يجمعها أي تفاهم وتنسيق، فقد كان هناك أنصار الحزب الأموي الخطير، والخوارج الذين يوجبون محاربة الفريقين، والمسلمون الموالي الذين وفدوا إلى العراق من مناطق أُخرى حيث قد بلغ عددهم العشرين ألفاً، وأخيراً جماعة شكّاكون بلا عقيدة ثابتة يتأرجحون بين تأييد هذاالتيار وذاك.
هؤلاء جميعاً شكّلوا المجتمع العراقي في تلك الفترة، هذا مضافاً إلى تلك الشريحة التي تشايع خط أمير المؤمنين وأهل البيت.(1)
جيش متفكّك
وقد انعكست طبعاً ظاهرة التعدّدية العقائدية والتباين الفكري والتفكّك على جيش الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ أيضاً وجعلت منه جيشاً لا يتمتع بالانسجام والتماسك، ولذلك كان من غير الممكن الاعتماد على هذا الجيش في مواجهة العدو الخارجي .
وقد كتب أُستاذ الشيعة المرحوم الشيخ المفيد والمؤرّخون الآخرون حول هذه الظاهرة الخطيرة في جيش الإمام: وبعث حجراً يأمر العمال بالمسير واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثمّ خفوا ومعه أخلاط من الناس:
أ. بعضهم شيعة له ولأبيه.
ب. وبعضهم محكّمة ـ أي خوارج ـ يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة ـ بغضاً بمعاوية لا حباً بالحسن ـ.
ج. وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم.
د. وبعضهم شكّاك لا يرون للحسن أي أفضلية على معاوية.
1-نفس المصدر، ص 68ـ 74.
(98)
هـ. وبعضهم أصحاب عصبية اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين.(1)
وهكذا كان جيش الحسن يفتقد الوحدة والانسجام الضروريين في مواجهة عدو قوي كمعاوية.
وثيقة حية
قد لا تكون هناك وثيقة تعطي صورة شاملة عن طبيعة المجتمع العراقي وتخاذله في الحرب أكثر نطقاً وأبلغ من كلام نفس الإمام، فقد خطب خطبة جامعة حماسية في المدائن أي النقطة الأخيرة التي وصلها:
«واللّه ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنّما كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وإنّا لكم كما كنّا ولستم لنا كما كنتم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له و قتيل بالنهروان تطلبون بثأره، فأمّا الباقي فثائر، ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى اللّه عزّ وجلّ بظباء السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا».(2)
وما إن بلغ الإمام هذا الموضع من خطبته ناداه القوم من كلّ جانب: البقية البقية.
1-الإرشاد، المفيد، ص 189; الفصول المهمة، ابن صباغ المالكي، 167.
2-أُسد الغابة في معرفة الصحابة:2/13و14; الكامل في التاريخ:3/406; بحار الأنوار:44/21; تذكرة الخواص، ابن الجوزي، ص 199.
(99)
إذن كيف يمكن للإمام أن يواجه عدوّاً قوياً مثل معاوية بالاعتماد على مثل هذا الجيش الفاقد لروح الجهاد؟! وهل يكون النصر مرجواً أبداً معه وهو متركّب من تيارات وشرائح متضاربة متناقضة، الأمر الذي يمكن أن يكون مصدر خطر بمجرد الغفلة عنه؟!
وإذا افترض انّ الإمام الحسن ومعاوية قد تبادلا مواقعهما، وكان معاوية قائداً لمثل هذا الجيش، فهل كان بإمكانه أن يقوم بغير ما قام به الإمام؟!
نعم تعاونت هذه الأسباب واجتمعت لتدفع بالمجتمع الإسلامي إلى شفا وادي الدمار وخلّفت أحداثاً مريرة سنشير إليها.
تعبئة القوات من قبل الإمام الحسن ـ عليه السَّلام ـ
قد شوّه بعض الكتّاب والمؤرّخين القدامى والمعاصرين الحقائق التاريخية وادّعى انّ الإمام الحسن لم ينو قتال معاوية والاختلاف معه، بل كان ومنذ الأيام الأُولى يتطلّع إلى الحصول على امتيازات مادية منه ليتمتّع بحياة رغيدة مرفّهة، ولم يكن نزاعه مع معاوية إلاّ لتحقيق تلك الأهداف والوصول إلى هذه الامتيازات!
هناك وثائق حية تدلّ على وهن هذه الافتراءات والتهم، وانّها لا تتلاءم مع الحقائق التاريخية على الإطلاق، لأنّه لو لم يشأ قتال معاوية لما كان هناك معنى لتعبئته للقوات وتجهيزه للجيش، وقد أجمع المؤرّخون على أنّه ـ عليه السَّلام ـ جهز جيشاً واستعد للقتال، غير انّ انعدام الانسجام ووجود التحزّب في جيشه من ناحية، وتفكّكه قبل بدء الحرب ونشوب النزاع أثر مؤامرات معاوية الغادرة وخذلان الناس له من ناحية أُخرى، دفعاه إلى أن يوقف الحرب ويخضع للصلح والسلم، وعليه بدأ عمل الإمام بالتحرّك وإعلان الحرب وإعداد الجيش، وانتهى إلى
(100)
الصلح والهدنة، وهو يدرك بعمق طبيعة المجتمع الإسلامي وظروفه ويهمه مصالح الأُمّة.(1)
وهنا نسترعي انتباه القرّاء إلى التفصيلات التالية.
ناكثو العهد
وكما أسلفنا لم يكن العراقيون على مرام واتجاه واحد، بل كانوا مذبذبين لا يعرفون الوفاء ولا يمكن الاعتماد عليهم والثقة بهم، يرفعون في كلّ يوم راية من الرايات وشعاراً من الشعارات، وطالما يخضعون للسلطات التي تحكمهم، وكما يقال يأكلون الرغيف بسعر اليوم.
وانطلاقاً من هذه الروح التي تحكمهم وتزامناً مع اشتداد تجهيز الجيوش وتعبئة القوات من الجانبين، خان بعض رؤساء القبائل والشخصيات المنحدرة من عوائل كبيرة الإمام الحسن وراسلوا معاوية وأعلنوا عن حمايتهم لحكمه وشجعوه على المسير نحو العراق سرّاً واعدين إيّاه أن يسلّموه الحسن حياً أو ميتاً إذا ما وصل هو إليهم، فأرسل معاوية نفس تلك الرسائل إلى الإمام، وقال له: كيف تقاتلني وأنت تثق وتعتمد على هؤلاء؟!(2)
1-ولهذا السبب ألف عدّة من المؤرّخين المسلمين القدماء كتباً تحت عنوان ـ قيام الحسن ـ ومنها الكتابان التاليان :
ألف: قيام الحسن ـ عليه السَّلام ـ ، تأليف هشام بن السائب الكلبي (المتوفّى 205هـ).
ب: قيام الحسن ـ عليه السَّلام ـ ، تأليف إبراهيم بن محمد الثقفي(المتوفّى عام 283هـ). (امام در عينيّت جامعه، محمد رضا الحكيمي، ص 171).
2-الإرشاد: 191، و ما يدعم هذه الحقيقة هو ما أجاب به الإمام الحسن أحد شيعته ،فقد قال ـ عليه السَّلام ـ ضمن سؤاله حول انّه لماذا أعرضت عن القتال؟:«واللّه لو كنت قاتلت معاوية لسلمني الناس إليه» ; البحار:44/20.