الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

الاستصحاب للشيخ المظفر

الاستصحاب ص 241

تعريفه:

إذا تيقن المكلف بحكم أو بموضوع ذي حكم ثم تزلزل يقينه السابق بأن شك في بقاء ما كان قد تيقن به سابقا - فانه بمقتضى ذهاب يقينه السابق يقع المكلف في حيرة من أمره في مقام العمل: هل يعمل على وفق ما كان متيقنا به ولكنه ربما زال ذلك المتيقن فيقع في مخالفة الواقع، أو لا يعمل على وفقه فينقضي ذلك اليقين بسبب ما عراه من الشك ويتحلل مما تيقن به سابقا ولكنه ربما كان المتيقن باقيا على حاله لم يزل فيقع في مخالفة الواقع؟ أذن ماذا تراه صانعا؟ - لا شك ان هذه الحيرة طبيعية للمكلف الشاك فتحتاج إلى ما يرفعها من مستند شرعي، فان ثبت بالدليل ان القاعدة هي ان يعمل على وفق اليقين السابق وجب الأخذ بها ويكون معذورا لو وقع في المخالفة، وإلا فلابد ان يرجع إلى مستند يطمئنه من التحلل مما تيقن به سابقا ولو مثل أصل البراءة أو الاحتياط. وقد ثبت لدى الكثير من الأصوليين ان القاعدة في ذلك ان يأخذ بالمتيقن السابق عند الشك اللاحق في بقائه، على اختلاف أقوالهم في شروط جريان هذه القاعدة وحدودها على ما سيأتي. وسموا هذه القاعدة ب‍ (الاستصحاب). * * * وكلمة (الاستصحاب): مأخوذة في أصل اشتقاقها من كلمة (الصحبة) من باب الاستفعال، فتقول: استصحبت هذا الشخص، أي اتخذته صاحبا مرافقا لك. وتقول: استصحبت هذا الشيء، أي حملته معك. وإنما صح إطلاق هذه الكلمة على هذه القاعدة في اصطلاح الأصوليين، ص 242 فباعتبار أن العامل بها يتخذ ما تيقن به سابقا صحيبا له إلى الزمان اللاحق في مقام العمل. وعليه، فكما يصح ان تطلق كلمة الاستصحاب على نفس الإبقاء العملي من الشخص المكلف العامل كذلك يصح إطلاقها على نفس القاعدة لهذا الإبقاء العملي، لان القاعدة في الحقيقة إبقاء واستصحاب من الشارع حكما. إذا عرفت ذلك، فينبغي ان يجعل التعريف لهذه القاعدة المجعولة، لا لنفس الإبقاء العملي من المكلف العامل بالقاعدة، لان المكلف يقال له: عامل بالاستصحاب ومجر له، وان صح ان يقال له: انه استصحب، كما يقال له: أجرى الاستصحاب. وعلى كل، فموضوع البحث هنا هو هذه القاعدة العامة. والمقصود بالبحث إثباتها وإقامة الدليل عليها وبيان مدى حدود العمل بها، فلا وجه لجعل التعريف لذات الإبقاء العملي الذي هو فعل العامل بالقاعدة كما صنع بعضهم فوقع في حيرة من توجيه التعريفات. والى تعريف القاعدة نظر من عرف الاستصحاب بأنه: (إبقاء ما كان). فان القاعدة في الحقيقة معناها إبقاؤه حكما، وكذلك من عرفه بأنه (الحكم ببقاء ما كان)، ولذا قال الشيخ الأنصاري عن ذلك التعريف: (والمراد بالإبقاء: الحكم بالبقاء)، بعد أن قال: انه أسد التعاريف واخصرها. ولقد أحسن وأجاد في تفسير الإبقاء بالحكم بالبقاء، ليدلنا على ان المراد من الإبقاء، الإبقاء حكما الذي هو القاعدة، لا الإبقاء عملا الذي هو فعل العامل بها. * * * وقد اعترض على هذا التعريف الذي استحسنه الشيخ بعدة أمور نذكر أهمها ونجيب عنها: (منها)، لا جامع للاستصحاب بحسب المشارب فيه من جهة المباني الثلاثة الآتية في حجيته، وهي: الأخبار، وبناء العقلاء، وحكم العقل. فلا يصح ان يعبر عنه بالإبقاء على جميع هذه المباني، وذلك لان المراد منه ص 243 ان كان الإبقاء العملي من المكلف فليس بهذا المعنى موردا لحكم العقل، لان المراد من حكم العقل هنا إذعانه كما سيأتي، وإذعانه انما هو ببقاء الحكم لا بإبقائه العملي من المكلف. وان كان المراد منه الإبقاء غير المنسوب إلى المكلف، فمن الواضح أنه لا جهة جامعة بين الإلزام الشرعي الذي هو متعلق بالإبقاء وبين البناء العقلائي والإدراك العقلي. والجواب يظهر مما سبق، فان المراد من الاستصحاب هو القاعدة في العمل المجعولة من قبل الشارع، وهي قاعدة واحدة في معناها على جميع المباني، غاية الأمر ان الدليل عليها تارة يكون الأخبار، وأخرى بناء العقلاء، وثالثة إذعان العقل الذي يستكشف منه حكم الشرع. و (منها)، ان التعريف المذكور لا يتكفل ببيان أركان الاستصحاب من نحو اليقين السابق والشك اللاحق. والجواب: ان التعبير (بإبقاء ما كان) مشعر بالركنين معا: اما الأول وهو اليقين السابق فيفهم من كلمة (ما كان)، لأنه - كما أفاده الشيخ الأنصاري - (دخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم، فعلة الإبقاء انه كان، فيخرج من التعريف إبقاء الحكم لأجل وجود علته أو دليله). وحينئذ لا يفرض انه كان الا إذا كان متيقنا. وأما الثاني وهو الشك اللاحق فيفهم من كلمة (الإبقاء) الذي معناه الإبقاء حكما وتنزيلا وتعبدا، ولا يكون الحكم التعبدي التنزيلي الا في مورد مفروض فيه الشك بالواقع الحقيقي، بل مع عدم الشك بالبقاء لا معنى لفرض الإبقاء وانما يكون بقاء للحكم ويكون أيضا عملا بالحاضر لا بما كان.

مقومات الاستصحاب:

بعد ان أشرنا إلى ان لقاعدة الاستصحاب أركانا نقول تعقيبا على ذلك: ان هذه القاعدة تتقوم بعدة أمور إذا لم تتوفر فيها فأما الا تسمى استصحابا أو لا تكون مشمولة لادلته الآتية: ويمكن ان ترتقي هذه المقومات إلى سبعة أمور حسبما تقتنص من كلمات الباحثين: 1 - (اليقين). والمقصود به اليقين بالحالة السابقة، سواء كانت حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي. وقد قلنا سابقا ان ذلك ركن في الاستصحاب، لان المفهوم من الأخبار الدالة عليه بل من معناه ان يثبت يقين ص 244 بالحالة السابقة وان لثبوت هذا اليقين علية في القاعدة. ولا فرق في ذلك بين ان نقول بان اعتبار سبق اليقين من جهة كونه صفة قأئمة بالنفس وبين ان نقول بذلك من جهة كونه طريقا وكاشفا. وسيأتي بيان وجه الحق من القولين. 2 - (الشك). والمقصود منه الشك في بقاء اليقين. وقد قلنا سابقا انه ركن في الاستصحاب، لأنه لا معنى لفرض هذه القاعدة ولا للحاجة إليها مع فرض بقاء اليقين أو تبدله بيقين آخر، ولا يصح ان تجري الا في فرض الشك ببقاء ما كان متيقنا. فالشك مفروغ عنه في فرض جريان قاعدة الاستصحاب فلا بد ان يكون مأخوذا في موضوعها. ولكن ينبغي ألا يخفى ان المقصود من الشك ما هو أعم من الشك بمعناه الحقيقي أي تساوي الاحتمالين، ومن الظن غير المعتبر. فيكون المراد منه عدم العلم والعلمي مطلقا، وسيأتي الإشارة إلى سر ذلك. 3 - (اجتماع اليقين والشك في زمان واحد)، بمعنى ان يتفق في آن واحد حصول اليقين والشك، لا بمعنى ان مبدأ حدوثهما يكون في آن واحد، بل قد يكون مبدأ حدوث اليقين قبل حدوث الشك كما هو المتعارف في أمثلة الاستصحاب، وقد يكونان متقارنين حدوثا كما لو علم يوم الجمعة - مثلا - بطهارة ثوبه يوم الخميس، وفي نفس يوم الجمعة في آن حصول العلم حصل له الشك في بقاء الطهارة السابقة إلى يوم الجمعة وقد يكون مبدأ حدوث اليقين متأخرا عن حدوث الشك، كما لو حدث الشك يوم الجمعة في طهارة ثوبه واستمر الشك إلى يوم السبت ثم حدث له يقين يوم السبت في ان الثوب كان طاهرا يوم الخميس، فان كل هذه ألفروض هي مجرى للاستصحاب. والوجه في اعتبار اجتماع اليقين والشك في الزمان واضح، لان ذلك هو المقوم لحقيقة الاستصحاب الذي هو إبقاء ما كان، إذ لو لم يجتمع اليقين السابق مع الشك اللاحق زمانا فانه لا يفرض ذلك الا فيما إذا تبدل اليقين بالشك وسرى الشك إليه فلا يكون العمل باليقين إبقاء لما كان، بل هذا مورد قاعدة اليقين المبأينة في حقيقتها لقاعدة الاستصحاب وسيأتي الإشارة إليها. 4 - (تعدد زمان المتيقن والمشكوك). ويشعر بهذا الشرط نفس الشرط الثالث المتقدم، لأنه مع فرض وحدة زمان اليقين والشك يستحيل فرض اتحاد زمان المتيقن والمشكوك مع كون المتيقن نفس المشكوك كما سيأتي اشتراط ذلك ص 245 في الاستصحاب أيضا. وذلك لان معناه اجتماع اليقين والشك بشيء واحد وهو محال. والحقيقة ان وحدة زمان صفتي اليقين والشك بشيء واحد يستلزم تعدد زمان متعلقهما، وبالعكس، أي ان وحدة زمان متعلقهما يستلزم تعدد زمان الصفتين. وعليه، فلا يفرض الاستصحاب الا في مورد اتحاد زمان اليقين والشك مع تعدد زمان متعلقهما. وأما في فرض العكس بان يتعدد زمانهما مع اتحاد زمان متعلقهما بان يكون في الزمان اللاحق شاكا في نفس ما تيقنه سابقا بوصف وجوده السابق، فان هذا هو مورد ما يسمى بقاعدة اليقين، والعمل باليقين لا يكون إبقاء لما كان: مثلا: إذا تيقن بحياة شخص يوم الجمعة ثم شك يوم السبت بنفس حياته يوم الجمعة بأن سرى الشك إلى يوم الجمعة، أي انه تبدل يقينه السابق إلى الشك، فان العمل على اليقين لا يكون إبقاء لما كان لأنه حينئذ لم يحرز ما كان تيقن به انه كان. ومن اجل هذا عبروا عن مورد قاعدة اليقين بالشك الساري. وهذا هو ألفرق الأساسي بين القاعدتين. وسيأتي ان أخبار الاستصحاب لا تشملها ولا دليل عليها غيرها. 5 - (وحدة متعلق اليقين والشك)، أي ان الشك يتعلق بنفس ما تعلق به اليقين مع قطع النظر عن اعتبار الزمان. وهذا هو المقوم لمعنى الاستصحاب الذي حقيقته إبقاء ما كان. وبهذا تفترق قاعدة الاستصحاب عن قاعدة المقتضي والمانع التي موردها ما لو حصل اليقين بالمقتضى والشك في الرافع أي المانع في تأثيره، فيكون المشكوك فيها غير المتيقن. فان من يذهب إلى صحة هذه القاعدة يقول: انه يجب البناء على تحقق المقتضى (بالفتح) إذا تيقن بوجود المقتضى (بالكسر) ويكفي ذلك بلا حاجة إلى إحراز عدم المانع من تأثيره، أي ان مجرد إحراز المقتضى كاف في ترتيب آثار مقتضاه. وسيأتي الكلام ان شاء الله تعالى فيها. 6 - (سبق زمان المتيقن على زمان المشكوك)، أي انه يجب ان يتعلق الشك في بقاء ما هو متيقن الوجود سابقا، وهذا هو الظاهر من معنى الاستصحاب، فلو انعكس الأمر بان كان زمان المتيقن متأخرا عن زمان ص 246 المشكوك بان يشك في مبدأ حدوث ما هو متيقن الوجود في الزمان الحاضر. فان هذا يرجع إلى الاستصحاب القهقري الذي لا دليل عليه. مثاله: ما لو علم بأن صيغة افعل حقيقة في الوجوب في لغتنا ألفعلية الحاضرة وشك في مبدأ حدوث وضعها لهذا المعنى: هل كان في أصل وضع لغة العرب أو انها نقلت عن معناها الأصلي إلى هذا المعنى في العصور الإسلامية؟ - فانه يقال هنا ان الأصل عدم النقل، لغرض إثبات انها موضوعة لهذا المعنى في أصل اللغة. ومعنى ذلك في الحقيقة جر اليقين اللاحق إلى الزمن المتقدم. ومثل هذا الاستصحاب يحتاج إلى دليل خاص ولا تكفي فيه أخبار الاستصحاب ولا أدلته الأخرى، لأنه ليس من باب عدم نقض اليقين بالشك، بل يرجع أمره إلى نقض الشك المتقدم باليقين المتأخر. 7 - (فعلية الشك واليقين)، يعنى انه لا يكفي الشك التقديري ولا اليقين التقديري. واعتبار هذا الشرط لا من أجل ان الاستصحاب لا يتحقق معناه الا بفرضه، بل لان ذلك مقتضى ظهور لفظ الشك واليقين في أخبار الاستصحاب، فانهما ظاهران في كونهما فعليين كسائر الألفاظ في ظهورها في فعلية عناوينها. وإنما يعتبر هذا الشرط في قبال من يتوهم جريان الاستصحاب في مورد الشك التقديري، ومثاله - كما ذكره بعضهم -: ما لو تيقن المكلف بالحدث ثم غفل عن حاله وصلى، ثم بعد ألفراغ من الصلاة شك في انه هل تطهر قبل الدخول في الصلاة. فان مقتضى قاعدة ألفراغ صحة صلاته لحدوث الشك بعد ألفراغ من العمل وعدم وجود الشك قبله. ولا نقول بجريان استصحاب الحدث إلى حين الصلاة لعدم فعلية الشك الا بعد الصلاة. وأما الاستصحاب الجاري بعد الصلاة فهو محكوم لقاعدة ألفراغ. أما لو قلنا بجريان الاستصحاب مع الشك التقديري وكان يقدر فيه الشك في الحدث لو انه التفت قبل الصلاة. فان المصلي حينئذ يكون بمنزلة من دخل في الصلاة وهو غير متطهر يقينا، فلا تصح صلاته وان كان غافلا حين الصلاة ولا تصححها قاعدة ألفراغ لأنها لا تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري قبل الدخول في الصلاة. معنى حجية الاستصحاب: من جملة المناقشات في تعريف الاستصحاب المتقدم وهو (إبقاء ما كان) ص 247 ونحوه: ما قاله بعضهم: انه لا شك في صحة توصيف الاستصحاب بالحجية، مع انه لو أريد منه ما يؤدي معنى الإبقاء لا يصح وصفه بالحجة، لأنه ان اريد منه الإبقاء العملي المنسوب إلى المكلف فواضح عدم صحة توصيفه بالحجة، لأنه ليس الإبقاء العملي يصح ان يكون دليلا على شيء وحجة فيه. وان أريد منه الإلزام الشرعي فانه مدلول الدليل، لا انه دليل على نفسه وحجة على نفسه، وكيف يكون دليلا على نفسه وحجة على نفسه. فهو من هذه الجهة شأنه شأن الأحكام التكليفية المدلولة للأدلة. قلت: نستطيع حل هذه الشبهة بالرجوع إلى ما ذكرناه من معنى الإبقاء الذي هو مؤدى الاستصحاب، وهوان المراد به القاعدة الشرعية المجعولة في مقام العمل. فليس المراد منه الإبقاء العملي المنسوب إلى المكلف ولا الإلزام الشرعي، فيصح توصيفه بالحجة ولكن لا بمعنى الحجة في باب الأمارات بل بالمعنى اللغوي لها، لأنه لا معنى لكون قاعدة العمل دليلا على شيء مثبتة له، بل هي الأمر المجعول من قبل الشارع فتحتاج إلى إثبات ودليل كسائر الأحكام التكليفية من هذه الجهة، ولكنه نظرا إلى ان العمل على وفقها عند الجهل بالواقع يكون معذرا للمكلف إذا وقع في مخالفة الواقع كما انه يصح الاحتجاج بها على المكلف إذا لم يعمل على وفقها فوقع في المخالفة. صح ان توصف بكونها حجة بالمعنى اللغوي. وبهذه الحجة يصح التوصيف بالحجة سائر الأصول العملية والقواعد ألفقهية المجعولة للشاك الجاهل بالواقع، فإنها كلها توصف بالحجة في تعبيراتهم، ولا شك في انه لا معنى لان يراد منها الحجة في باب الأمارات، فيتعين ان يراد منها هذا المعنى اللغوي من الحجة. وبهذه الجهة تفترق القواعد والأصول الموضوعة للشاك عن سائر الأحكام التكليفية، فانها لا يصح توصيفها بالحجة مطلقا حتى بالمعنى اللغوي. غير انه يجب ألا يغيب عن البال ان توصيف القواعد والأصول الموضوعة للشاك بالحجة يتوقف على ثبوت مجعوليتها من قبل الشارع بالدليل الدال عليها. فالحجة في الحقيقة هي القاعدة المجعولة للشاك بما انها مجعولة من قبله. وإلا إذا لم تثبت مجعوليتها لا يصح ان تسمى قاعدة فضلا عن توصيفها بالحجة. وعليه، فيكون المقوم لحجية القاعدة المجعولة للشاك - أية قاعدة كانت - هو الدليل الدال عليها الذي هو حجة بالمعنى الاصطلاحي. ص 248 وإذا ثبت صحة توصيف نفس قاعدة الاستصحاب بالحجة بالمعنى اللغوي لم تبق حاجة إلى التأويل لتصحيح توصيف الاستصحاب بالحجة - كما صنع بعض مشايخنا طيب الله ثراه - إذ جعل الموصوف بالحجة فيه على اختلاف المباني أحد أمور ثلاثة: 1 - (اليقين السابق)، باعتبار انه يكون منجزا للحكم حدوثا عقلا والحكم بقاء بجعل الشارع. 2 - (الظن بالبقاء اللاحق)، بناء على اعتبار الاستصحاب من باب حكم العقل. 3 - (مجرد الكون السابق) فان الوجود السابق يكون حجة في نظر العقلاء على الوجود الظاهري في اللاحق، لا من جهة وثاقة اليقين السابق، ولا من جهة رعاية الظن بالبقاء اللاحق، بل من جهة الاهتمام بالمقتضيات والتحفظ على الأغراض الواقعية. فان كل هذه التأويلات انما نلتجئ إليها إذا عجزنا عن تصحيح توصيف نفس الاستصحاب بالحجة، وقد عرفت صحة توصيفه بالحجة بمعناها اللغوي. ثم لا شك في ان الموصوف بالحجة في لسان الأصوليين نفس الاستصحاب، لا اليقين المقوم لتحققه، ولا الظن بالبقاء، ولا مجرد الكون السابق، وان كان ذلك كله مما يصح توصيفه بالحجة. هل الاستصحاب أمارة أو أصل؟ بعد ان تقدم انه لا يصح توصيف قاعدة العمل للشاك - اية قاعدة كانت - بالحجة في باب الأمارات يتضح لك انه لا يصح توصيفها بالأمارة فانه تكون أمارة على أي شيء وعلى أي حكم. ولا فرق في ذلك بين قاعدة الاستصحاب وبين غيرها من الأصول العملية والقواعد ألفقهية. إذ ان قاعدة الاستصحاب في الحقيقة مضمونها حكم عام وأصل عملي يرجع إليها المكلف عند الشك والحيرة ببقاء ما كان. ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الدليل عليها الأخبار أو غيرها من الأدلة كبناء العقلاء، وحكم العقل، والإجماع. ولكن الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه فرق في الاستصحاب بين ان ص 249 يكون مبناه الأخبار فيكون أصلا، وبين ان يكون مبناه حكم العقل فيكون أمارة. قال ما نصه: (ان عد الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال مبني على استفادته من الأخبار، وأما بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل ظني اجتهادي نظير القياس والاستقراء على القول بهما). أقول: وكأن من تأخر عنه اخذ هذا الرأي إرسال المسلمات، والذي يظهر من القدماء انه معدود عندهم من الأمارات كالقيام إذ لا مستند لهم عليه الا حكم العقل. غير ان الذي يبدو لي ان الاستصحاب حتى على القول بان مستنده حكم العقل لا يخرج عن كونه قاعدة عملية ليس مضمونها الا حكما ظاهريا مجعولا للشاك. وأما الظن ببقاء المتيقن - على تقدير حكم العقل وعلى تقدير حجية مثل هذا الظن - لا يكون الا مستندا للقاعدة ودليلا عليها وشأنه في ذلك شأن الأخبار وبناء العقلاء، لا ان الظن هو نفس القاعدة حتى تكون أمارة، لان هذا الظن نستنتج منه ان الشارع جعل هذه القاعدة الإستصحابية لأجل العمل بها عند الشك والحيرة. والحاصل ان هذا الظن يكون مستندا للاستصحاب لا انه نفس الاستصحاب، وهو من هذه الجهة كالأخبار وبناء العقلاء، فكما ان الأخبار يصح ان توصف بأنها أمارة على الاستصحاب إذا قام الدليل القطعي على اعتبارها ولا يلزم من ذلك ان يكون نفس الاستصحاب أمارة، كذلك يصح ان يوصف هذا الظن بأنه أمارة إذا قام الدليل القطعي على اعتباره ولا يلزم منه ان يكون نفس الاستصحاب أمارة. فأتضح انه لا يصح توصيف الاستصحاب بأنه أمارة على جميع المباني فيه، وإنما هو أصل عملي لا غير. الأقوال في الاستصحاب: تشعبت في الاستصحاب أقوال العلماء بشكل يصعب حصرها على ما يبدو. ونحن نحيل خلاصتها إلى ما جاء في رسائل الشيخ الأنصاري ثقة بتحقيقه - وهو خريت هذه الصناعة الصبور على ملاحقة أقوال العلماء وتتبعها - قال رحمه الله بعد ان توسع في نقل الأقوال والتعقيب عليها ما نصه: ص 250 (هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب، والمتحصل منها في بادي النظر أحد عشر قولا: 1 - القول بالحجية مطلقا (1). 2 - عدمها مطلقا. 3 - التفصيل بين العدمي والوجودي. 4 - التفصيل بين الأمور الخارجية وبين الحكم الشرعي مطلقا، فلا يعتبر في الأول. 5 - التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره فلا يعتبر في الأول الا في عدم النسخ. 6 - التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره فلا يعتبر في غير الأول. وهذا هو الذي ربما يستظهر من كلام المحقق الخونساري في حاشية شرح الدروس على ما حكاه السيد في شرح الوافية. 7 - التفصيل بين الأحكام الوضعية - يعني نفس الأسباب والشروط والموانع والأحكام التكليفية التابعة لها - وبين غيرها من الأحكام الشرعية فتجري في الأول دون الثاني. 8 - التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره فلا يعتبر في الأول. 9 - التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله أو من الخارج استمراره فشك في الغاية الرافعة له، وبين غيره، فيعتبر في الأول دون الثاني، كما هو ظاهر المعارج. 10 - هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية كما هو الظاهر من المحقق السبزواري. 11 - زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقي دون المفهومي، كما هو ظاهر ما سيجئ من المحقق الخونساري. ثم انه لو بني على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرض لهذه المسألة في
(هامش) (1) ذهب إلى القول من المتأخرين الشيخ الآخوند صاحب الكفاية ره. ص 251 الأصول والفروع لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير، بل يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة، الا ان صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي. والأقوى هو (القول التاسع) وهو الذي اختاره المحقق) انتهى ما أردنا نقله من عبارة الشيخ الأعظم. وينبغي ان يزاد تفصيل آخر لم يتعرض له في نقل الأقوال، وهو رأي خاص به، إذ فصل بين كون المستصحب مما ثبت بدليل عقلي فلا يجري فيه الاستصحاب، وبين ما ثبت بدليل آخر فيجري فيه. ولعله انما لم يذكره في ضمن الأقوال لأنه يرى ان الحكم الثابت بدليل عقلي لا يمكن ان يتطرق إليه الشك، بل اما ان يعلم بقاؤه أو يعلم زواله، فلا يتحقق فيه ركن الاستصحاب وهو الشك. فلا يكون ذلك تفصيلا في حجية الاستصحاب. وقبل ان ندخل في مناقشة الأقوال والترجيح بينها ينبغي ان نذكر الأدلة على الاستصحاب التي تمسك بها القائلون بحجيته لنناقشها ونذكر مدى دلالتها: ص 252

أدلة الاستصحاب 

الدليل الأول - بناء العقلاء لا شك في ان العقلاء من الناس على اختلاف مشاربهم وأذواقهم جرت سيرتهم في عملهم وتبانوا في سلوكهم العملي على الأخذ بالمتيقن السابق عند الشك اللاحق في بقائه. وعلى ذلك قامت معايش العباد، ولولا ذلك لاختل النظام الاجتماعي ولما قامت لهم سوق وتجارة. وقيل: ان ذلك مرتكز حتى في نفوس الحيوانات: فالطيور ترجع إلى أوكارها والماشية تعود إلى مرابضها. ولكن هذا التعميم للحيوانات محل نظر، بل ينبغي ان يعد من المهازل لعدم حصول الاحتمال عندها حتى يكون ذلك منها استصحابا، بل تجري في ذلك على وفق عادتها بنحو لا شعوري. وعلى كل حال، فان بناء العقلاء في عملهم مستقر على الأخذ بالحالة السابقة عند الشك في بقائها، في جميع أحوالهم وشؤونهم، مع الالتفات إلى ذلك والتوجه إليه. وإذا ثبتت هذه المقدمة ننتقل إلى مقدمة أخرى فنقول: ان الشارع من العقلاء بل رئيسهم فهو متحد المسلك معهم، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العملية يثبت على سبيل القطع انه ليس له مسلك آخر غير مسلكهم وإلا لظهر وبان ولبلغه الناس. وقد تقدم مثل ذلك في حجية خبر الواحد. وهذا الدليل - كما ترى - يتكون من مقدمتين قطعيتين: 1 - ثبوت بناء العقلاء على إجراء الاستصحاب. 2 - كشف هذا البناء عن موافقة الشارع واشتراكه معهم. وقد وقعت المناقشة في المقدمتين معا. ويكفي في المناقشة ثبوت الاحتمال فيبطل به الاستدلال، لان مثل هذه المقدمات يجب ان تكون قطعية وإلا فلا يثبت بها المطلوب ولا تقوم بها للاستصحاب ونحوه حجة. أما (الأولى)، فقد ناقش فيها أستاذنا الشيخ النائيني رحمه الله: بأن بناء ص 253 العقلاء لم يثبت الا فيما إذا كان الشك في الرافع، اما إذا كان الشك في المقتضى فلم يثبت منهم هذا البناء (على ما سيأتي من معنى المقتضى والرافع اللذين يقصدهما الشيخ الأنصاري). فيكون بناء العقلاء هذا دليلا على التفصيل المختار له وهو القول التاسع. ولا يبعد صحة ما أفاده من التفصيل في بناء العقلاء، بل يكفي احتمال اختصاص بنائهم بالشك في الرافع. ومع الاحتمال يبطل الاستدلال كما سبق. واما (المقدمة الثانية)، فقد ناقش فيها شيخنا الآخوند في الكفاية بوجهين نذكرهما ونذكر الجواب عنهما: (أولا) - ان بناء العقلاء لا يستكشف منه اعتبار الاستصحاب عند الشارع الا إذا أحرزنا ان منشأ بنائهم العملي هو التعبد بالحالة السابقة من قبلهم، أي أنهم يأخذون بالحالة السابقة من أجل انها سابقة، لنستكشف منه تعبد الشارع. ولكن ليس هذا بمحرز منهم إذا لم يكن مقطوع العدم، فانه من الجائز قريبا ان أخذهم بالحالة السابقة لا لأجل انها حالة سابقة بل لأجل رجاء تحصيل الواقع مرة، أو لأجل الاحتياط أخرى، أو لأجل اطمئنانهم ببقاء ما كان ثالثة، أو لأجل ظنهم بالبقاء ولو نوعا رابعة، أو لأجل غفلتهم عن الشك أحيانا خامسة. وإذا كان الأمر كذلك فلم يحرز تعبد الشارع بالحالة السابقة الذي هو النافع في المقصود. والجواب: ان المقصود النافع من ثبوت بناء العقلاء هو ثبوت تبانيهم العملي على الأخذ بالحالة السابقة، وهذا ثابت عندهم من غير شك، أي ان لهم قاعدة عملية تبانوا عليها ويتبعونها أبدا مع الالتفات والتوجه إلى ذلك، أما فرض الغفلة من بعضهم أحيانا فهو صحيح ولكن لا يضر في ثبوت التباني منهم دائما مع الالتفات. ولا يضر في استكشاف مشاركة الشارع معهم في تبانيهم اختلاف أسباب التباني عندهم من جهة مجرد الكون السابق أو من جهة الاطمئنان عندهم أو الظن لأجل الغلبة أو لأي شيء آخر من هذا القبيل، فهي قاعدة ثابتة عندهم فتكون ثابتة أيضا عند الشارع ولا يلزم ان يكون ثبوتها عنده من جميع الأسباب التي لاحظوها. وإذا ثبتت عند الشارع فليس ثبوتها عنده الا التعبد بها من قبله فتكون حجة على المكلف وله. نعم احتمال كون السبب في بنائهم ولو أحيانا رجاء تحصيل الواقع أو ص 254 الاحتياط من قبلهم قد يضر في استكشاف ثبوتها عند الشارع كقاعدة لأنها لا تكون عندهم كقاعدة لأجل الحالة السابقة، ولكن الرجاء بعيد جدا من قبلهم ما لم يكن هناك عندهم اطمئنان أو ظن أو تعبد بالحالة السابقة لاحتمال ان الواقع غير الحالة السابقة، بل قد يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة فالبناء على البقاء خلاف الرجاء. وكذلك الاحتياط قد يقتضى البناء على عدم البقاء. فهذه الاحتمالات ساقطة في كونها سببا لتباني العقلاء ولو أحيانا. (ثانيا) - بعد التسليم بأن منشأ بناء العقلاء هو التعبد ببقاء ما كان نقول: ان هذا لا يستكشف منه حكم الشارع الا إذا احرزنا رضاه ببنائهم وثبت لدينا انه ماض عنده. ولكن لا دليل على هذا الرضا وإلامضاء، بل ان عمومات الأيات والأخبار الناهية عن أتباع غير العلم كافية في الردع عن أتباع بناء العقلاء. وكذلك ما دل على البراءة وإلاحتياط في الشبهات. بل احتمال عمومها للمورد كاف في تزلزل اليقين بهذه المقدمة. فلا وجه لأتباع هذا البناء، إذ لا بد في أتباعه من قيام الدليل على انه ممضي من قبل الشارع. ولا دليل. والجواب ظاهر من تقريبنا للمقدمة الثانية على النحو الذي بيناه، فانه لا يجب في كشف موافقة الشارع إحراز امضائه من دليل آخر، لان نفس بناء العقلاء هو الدليل والكاشف عن موافقته كما تقدم. فيكفي في المطلوب عدم ثبوت الردع ولا حاجة إلى دليل آخر على إثبات رضاه وامضائه. وعليه، فلم يبق علينا الا النظر في الأيات والأخبار الناهية عن أتباع غير العلم في انها صالحة للردع المقام أو غير صالحة؟ والحق انها غير صالحة، لان المقصود من النهي عن أتباع غير العلم هو النهي عنه لإثبات الواقع به، وليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع، فلا يشمل هذا النهي الاستصحاب الذي هو قاعدة كلية يرجع إليها عند الشك، فلا ترتبط بالموضوع الذي نهت عنه الأيات والأخبار حتى تكون شاملة لمثله، أي ان الاستصحاب خارج عن الأيات والأخبار تخصصا. واما ما دل على البراءة أو الاحتياط فهو في عرض الدليل على الاستصحاب فلا يصلح للردع عنه لان كلا منهما موضوعه الشك، بل أدلة الاستصحاب مقدمة على أدلة هذه الأصول كما سيأتي. ص 255 الدليل الثاني - حكم العقل والمقصود منه هنا هو حكم العقل النظري لا العملي، إذ يذعن بالملازمة بين العلم بثبوت الشيء في الزمان السابق وبين رجحان بقائه في الزمان اللاحق عند الشك ببقائه. أي انه إذا علم الإنسان بثبوت شيء في زمان ثم طرأ ما يزلزل العلم ببقائه في الزمان اللاحق فان العقل يحكم برجحان بقائه وبانه مظنون البقاء. وإذا حكم العقل برجحان البقاء فلا بد ان يحكم الشرع أيضا برجحان البقاء. والى هذا يرجع ما نقل عن العضدي في تعريف الاستصحاب (بأن معناه ان الحكم ألفلاني قد كان ولم يعلم عدمه وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء). أقول: وهذا حكم العقل لا ينهض دليلا على الاستصحاب على ما سنشرحه، والظاهر ان القدماء القائلين بحجيته لم يكن عندهم دليل عليه غير هذا الدليل، كما يظهر جليا من تعريف العضدي المتقدم، إذ أخذ فيه نفس حكم العقل هذا، ولعله لأجل هذا أنكره من أنكره من قدماء أصحابنا إذ لم يتنبهوا إلى ادلته الأخرى على ما يظهر، فانه أول من تمسك ببناء العقلاء العلامة الحلي في النهاية، وأول من تمسك بالأخبار الشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائي وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس وشاع بين من تأخر عنهم، كما حقق ذلك الشيخ الأنصاري في رسائله في الأمر الأول من مقدمات الاستصحاب، ثم قال: (نعم ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار حيث عبر عن استصحاب نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره من قبل نفسه بنقض اليقين باليقين. وهذه العبارة ظاهرة انها مأخوذة من الأخبار). وعلى كل حال فهذا الدليل العقلي فيه مجال للمناقشة من وجهين: (الأول) في أصل الملازمة العقلية المدعاة. ويكفي في تكذيبها الوجدان، فانا نجد ان كثيرا ما يحصل العلم بالحالة السابقة ولا يحصل الظن ببقائها عند الشك لمجرد ثبوتها سابقا. (الثاني) على تقدير تسليم هذه الملازمة، فان أقصى ما يثبت بها حصول الظن بالبقاء، وهذا الظن لا يثبت به حكم الشرع الا بضميمة دليل آخر يدل ص 256 على حجية هذا الظن بالخصوص ليستثني مما دل على حرمة التعبد بالظن. والشأن كل الشأن في إثبات هذا الدليل. فلا تنهض هذه الملازمة العقلية على تقديرها دليلا بنفسها على الحكم الشرعي. ولو كان هناك دليل على حجية هذا الظن بالخصوص لكان هو الدليل على الاستصحاب لا الملازمة وانما تكون الملازمة محققة لموضوعه. ثم ما المراد من قولهم: ان الشارع يحكم برجحان البقاء على طبق حكم العقل، فانه على إطلاقه موجب للأيهام والمغالطة، فانه ان كان المراد انه يظن بالبقاء كما يظن سائر الناس فلا معنى له. وان كان المراد انه يحكم بحجية هذا الرجحان فهذا لا تقتضيه الملازمة بل يحتاج إثبات ذلك إلى دليل آخر كما ذكرنا. وان كان المراد انه يحكم بأن البقاء مظنون وراجح عند الناس، أي يعلم بذلك، فهذا وان كان تقتضيه الملازمة ولكن هذا المقدار غير نافع ولا يكفي وحده في إثبات المطلوب، إذ لا يكشف مجرد علمه بحصول الظن عند الناس عن اعتباره لهذا الظن ورضاه به. والنافع في الباب إثبات هذا الاعتبار من قبله للظن لا حكمه بأن هذا الشيء مظنون البقاء عند الناس. ص 257 الدليل الثالث - الإجماع نقل جماعة الاتفاق على اعتبار الاستصحاب منهم صاحب المبادئ على ما نقل عنه، إذ قال: (الاستصحاب حجة لإجماع ألفقهاء على انه متى حصل حكم ثم وقع الشك في انه طرأ ما يزيله أم لا وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا). أقول: ان تحصيل الإجماع في هذه المسألة مشكل جدا، لوقوع الاختلافات الكثيرة فيها كما سبق الا ان يراد منه حصول الإجماع في الجملة عن نحو الموجبة الجزئية في مقابل السلب الكلي وهذا الإجماع بهذا المقدار قطعي. ألا ترى ان ألفقهاء في مسألة من تيقن بالطهارة وشك في الحدث أو الخبث قد اتفقت كلمتهم من زمن الشيخ الطوسي بل من قبله إلى زماننا الحاضر على ترتيب آثار الطهارة السابقة بلا نكير منهم، وكذا في كثير من المسائل مما هو نظير ذلك. ومعلوم ان فرض كلامهم في مورد الشك اللاحق لا في مورد الشك الساري، فلا يكون حكمهم بذلك من جهة قاعدة اليقين، بل ولا من جهة قاعدة المقتضي والمانع. والحاصل ان هذا ومثله يكفي في الاستدلال على اعتبار الاستصحاب في الجملة في مقابل السلب الكلي، وهو قطعي بهذا المقدار. ويمكن حمل قول منكر الاستصحاب مطلقا على إنكار حجيته من طريق الظن لا من أي طريق كان، في مقابل من قال بحجيته لأجل تلك الملازمة العقلية المدعاة. نعم دعوى الإجماع على حجية مطلق الاستصحاب أو في خصوص ما إذا كان الشك في الرافع في غاية الإشكال، بعدما عرفت من تلك الأقوال. ص 258 الدليل الرابع - الأخبار وهي العمدة في إثبات الاستصحاب وعليها التعويل، وإذا كانت أخبار آحاد فقد تقدم حجية خبر الواحد، مضافا إلى انها مستفيضة ومؤيدة بكثير من القرائن العقلية والنقلية. وإذا كان الشيخ الأنصاري قد شك فيها بقوله: (هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدل بها للاستصحاب، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها)، فانها في الحقيقة هي جل اعتماده في مختاره، وقد عقب هذا الكلام بقوله: (فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد)، ثم أيدها بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة. وعلى كل حال، فينبغي النظر فيها لمعرفة حجيتها ومدى دلالتها، ولنذكرها واحدة واحدة، فنقول: 1 - صحيحة زرارة الأولى وهي مضمرة لعدم ذكر الإمام المسؤول فيها، ولكنه كما قال الشيخ الأنصاري لا يضرها الاضمار، والوجه في ذلك ان زرارة لا يروي عن غير الإمام لا سيما مثل هذا الحكم بهذا البيان، والمنقول عن فوائد العلامة الطباطبائي ان المقصود به الإمام الباقر عليه السلام. (قال زرارة: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال يا زرارة؟ قد تنام العين ولا ينام القلب وإلأذن، فإذا نامت العين وإلأذن فقد وجب الوضوء. قلت: فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال: لا! حتى يستيقن انه نام. حتى يجئ من ذلك أمر بين. وإلا فانه على يقين من وضوئه. ولا ينقض اليقين بالشك أبدا، ولكنه ينقضه بيقين آخر). ونذكر في هذه الصحيحة بحثين: ص 259 (الأول) - في فقهها. ولا يخفى ان فيها سؤالين (أولهما) عن شبهة مفهومية حكمية لغرض معرفة سعة موضوع النوع من جهة كونه ناقضا للوضوء، إذ لا شك في انه ليس المقصود السؤال عن معنى النوم لغة ولا عن كون الخفقة أو الخفقتين ناقضة للوضوء على نحو الاستقلال في مقابل النوم. فينحصر ان يكون مراده - والجواب قرينة على ذلك أيضا - هو السؤال عن شمول النوم الناقص للخفقة والخفقتين، مع علم السائل بأن النوم في نفسه له مراتب تختلف شدة وضعفا ومنه الخفقة والخفقتان، ومع علمه بأن النوم ناقض للوضوء في الجملة. فلذلك اجاب الإمام بتحديد النوم الناقض وهو الذي تنام فيه العين وإلأذن معا. اما ما تنام فيه العين دون القلب وإلأذن كما في الخفقة والخفقتين فليس ناقضا. وأما السؤال (الثاني) فهو - لا شك - عن الشبهة الموضوعية بقرينة الجواب، لأنه لو كان مراد السائل الاستفهام عن مرتبة أخرى من النوم التي لا يحس معها بما يتحرك في جنبه، لكان ينبغي ان يرفع الإمام شبهته بتحديد آخر للنوم الناقض. ولو كانت شبهة السائل شبهة مفهومية حكمية لما كان معنى لفرض الشك في الحكم الواقعي في جواب الإمام ثم إجراء الاستصحاب، ولما صح ان يفرض الإمام استيقان السائل بالنوم تارة وعدم استيقانه أخرى، لان الشبهة لو كانت مفهومية حكمية لكان السائل عالما بان هذه المرتبة هي من النوم، ولكن يجهل حكمها كالسؤال الأول. وإذا كان الأمر كذلك فالجواب الأخير إذا كان متضمنا لقاعدة الاستصحاب كما سيأتي فموردها يكون حينئذ خصوص الشبهة الموضوعية، فيقال حينئذ: لا يستكشف من إطلاق الجواب عموم القاعدة للشبهة الحكمية الذي يهمنا بالدرجة الأولى إثباته، إذ يكون المورد من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، وقد تقدم في الجزء الأول ان ذلك يمنع من التمسك بالإطلاق وان لم يكن صالحا للقرينية، لما هو المعروف ان المورد لا يخصص العام ولا يقيد المطلق. نعم قد يقال في الجواب: ان كلمة (أبدا) لها من قوة الدلالة على العموم وإلاطلاق مالا يحد منها القدر المتيقن في مقام التخاطب، فهي تعطي في ظهورها القوي ان كل يقين مهما كان متعلقه وفي أي مورد كان لا ينقض بالشك أبدا. (الثاني) في دلالتها على الاستصحاب. ص 260 وتقريب الاستدلال بها ان قوله (ع): (فانه على يقين من وضوئه) جملة خبرية هي جواب الشرط (1) ومعنى هذه الجملة الشرطية: انه ان لم يستيقن بانه قد نام فانه باق على يقين من وضوئه، أي انه لم يحصل ما يرفع اليقين به وهو اليقين بالنوم. وهذه مقدمة تمهيدية وتوطئة لبيان ان الشك ليس رافعا لليقين وإنما الذي يرفعه اليقين بالنوم، وليس الغرض منها إلا بيان انه على يقين من وضوئه، ليقول ثانيا انه لا ينبغي ان يرفع اليد عن هذا اليقين إذ لا موجب لانحلاله ورفع اليد عنه إلا الشك الموجود، والشك بما هو شك لا يصلح ان يكون رافعا وناقضا لليقين، وانما ينقض اليقين اليقين لا غير. فقوله: (وإلا فانه علي يقين من وضوئه) بمنزلة الصغرى، وقوله (ولا ينقض اليقين بالشك أبدا) بمنزلة الكبرى. وهذه الكبرى مفادها قاعدة الاستصحاب، وهي البناء على اليقين السابق وعدم نقضه بالشك اللاحق. فيفهم منها ان كل يقين سابق لا ينقضه الشك اللاحق. هذا وقد وقعت المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة من عدة وجوه: (منها) - ما أفاده الشيخ الأنصاري إذ قال: (ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس، إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى المنضمة إلى الصغرى (ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك) فيفيد قاعدة كلية في باب الوضوء) إلى آخر ما أفاده، ولكنه استظهر أخيرا كون اللام للجنس. أقول: ان كون اللام للعهد يقتضي ان يكون المراد من اليقين في الكبرى شخص اليقين المتقدم فان هذا هو معنى العهد. وعليه فلا تفيد قاعدة كلية (هامش) (1) بنى الشيخ الأنصاري ومن حذا حذوه الاستدلال بهذه الصحيحة على أن جواب الشرط محذوف وأن قوله (فانه على يقين من وضوئه) علة للجواب قامت مقامه. وقال: (وجعله نفس الجزاء يحتاج إلى تكلف). فيكون معنى الرواية على قوله ان يستيقن أنه قدم نام فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه في السابق. فحذف (فلا يجب عليه الوضوء) وأقام العلة مقامه. وهذا الوجه الذي ذكره وإن كان وجيها ولكن الحذف خلاف الأصل ولا موجب له ولا تكلف في جعل الموجود نفس الجزاء على ما بيناه في المتن. ولا يتوقف الاستدلال بالصحيحة على هذا الوجه ولا على ذلك الوجه ولا على أي وجه آخر ذكروه. فان المقصود منها في بيان قاعدة الاستصحاب مفهوم واضح يحصل في جميع هذه الوجوه. (*) ص 261 حتى في باب الوضوء. ومنه يتضح غرابة احتمال إرادة العهد من اللام بل ذلك مستهجن جدا، فان ظاهر الكلام هو تطبيق كبرى على صغرى لا سيما مع إضافة كلمة (أبدا). فيتعين ان تكون اللام للجنس. ولكن مع ذلك هذا وحده غير كاف في التعميم لكل يقين حتى في غير الوضوء، لامكان ان يراد جنس اليقين بالوضوء بقرينة تقييده في الصغرى به لا كل يقين فيكون ذلك من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، فيمنع من التمسك بالإطلاق، كما سبق نظيره. وهذا الاحتمال لا ينافي كون الكبرى كلية غاية الأمر تكون كبرى كلية خاصة بالوضوء. فيتضح ان مجرد كون اللام للجنس لا يتم به الاستدلال مع تقدم ما يصلح للقرينة، ولعل هذا هو مراد الشيخ من التعبير بالعهد، ومقصوده تقدم القرينة، فكان ذلك تسامحا في التعبير. وعلى كل حال، فالظاهر من الصحيحة ظهورا قويا: إرادة مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء، وذلك لمناسبة الحكم والموضوع، فان المناسب لعدم النقض بالشك بما هو شك هو اليقين بما هو يقين، لا بما هو يقين بالوضوء، لان المقابلة بين الشك واليقين واسناد عدم النقض إلى الشك تجعل اللفظ كالصريح في ان العبرة في عدم جواز النقض هو جهة اليقين بما هو يقين لا اليقين المقيد بالوضوء من جهة كونه مقيدا بالوضوء. ولا يصلح ذكر قيد (من وضوئه) في الصغرى ان يكون قرينة على التقييد في الكبرى ولا أن يكون من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، لان طبيعة الصغرى ان تكون في دائرة اضيق من دائرة الكبرى ومفروض المسألة في الصغرى باب الوضوء فلا بد من ذكره. وعليه، فلا يبعد ان مؤدى الصغرى هكذا (فانه من وضوئه على يقين) فلا تكون كلمة (من وضوئه) قيد لليقين، يعني ان الحد الأوسط المتكرر هو (اليقين) لا (اليقين من وضوئه). و (منها) - ان الوضوء أمر آني متصرم ليس له استمرار في الوجود وانما الذي إذا ثبت استدام هو أثره وهو الطهارة، ومتعلق اليقين في الصحيحة هو الوضوء لا الطهارة، ومتعلق الشك هو المانع من استمرار الطهارة أثر المتيقن، فيكون ص 262 الشك في استمرار أثر المتيقن لا المتيقن نفسه. وعليه فلا يكون متعلق اليقين نفس متعلق الشك، فانخرم الشرط الخامس في الاستصحاب، ويكون ذلك موردا لقاعدة المقتضي والمانع. فتكون الصحيحة دليلا عليه لا على الاستصحاب. (وفيه) ان الجمود على لفظ الوضوء يوهم ذلك، ولكن المتعارف من مثل هذا التعبير في لسان الأخبار إرادة الطهارة التي هي أثر له بإطلاق السبب وإرادة المسبب، ونفس صدر الصحيحة (الرجل ينام وهو على وضوء) يشعر بذلك. فالمتبادر والظاهر من قوله (فانه على يقين من وضوئه) انه متيقن بالطهارة المستمرة لولا الرافع لها، والشك انما هو في ارتفاعها للشك في وجود الرافع. فيكون متعلق اليقين نفس متعلق الشك. فما ابعدها عن قاعدة المقتضى والمانع. و (منها) - ما أفاده الشيخ الأنصاري في مناقشة جميع الأخبار العامة المستدل بها على حجية مطلق الاستصحاب، واستنتج من ذلك انها مختصة بالشك في الرافع، فيكون الاستصحاب حجة فيه فقط، قال رحمه الله: (فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد، وفيه تأمل قد فتح بابه المحقق الخونساري في شرح الدروس). وسيأتي ان شاء الله تعالى في آخر الأخبار بيان هذه المناقشة ونقدها. 2 - صحيحة زرارة الثانية وهي مضمرة أيضا كالسابقة. (قال زرارة: قلت له: اصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت أثره إلى ان اصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فان لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه اصابه فطلبته ولم اقدر عليه، فلما صليت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. ص 263 قلت: فان ظننت انه اصابه ولم اتيقن، فنظرت ولم أر شيئا، فصليت فيه، فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟ قال: لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت. وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت: فاني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد اصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل علي ان شككت انه اصابه شيء أن انظر فيه؟ قال: لا! ولكنك انما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع في نفسك. قلت: ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لانك لا تدري لعله شيء اوقع عليك، فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك) الحديث. * * * وإلاستدلال بهذه الصحيحة للمطلوب في فقرتين منها، بل قيل في ثلاث: (الأولى) - قوله: (لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت.) الخ بناء على ان المراد من اليقين بالطهارة هو اليقين بالطهارة الواقع قبل الظن الإصابة بالنجاسة. وهذا المعنى هو الظاهر منها. ويحتمل بعيدا ان يراد منه اليقين بالطهارة الواقع بعد ظن الإصابة وبعد الفحص عن النجاسة، إذ قال: (فنظرت ولم أر شيئا)، على أن يكون قوله (ولم أر شيئا) عبارة أخرى عن اليقين بالطهارة. وعلى هذا الاحتمال يكون مفاد الرواية قاعدة اليقين لا الاستصحاب، لأنه يكون حينئذ مفاد قوله (فرأيت فيه) تبدل اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة. ووجه بعد هذا الاحتمال ان قوله (ولم أر شيئا) ليس فيه أي ظهور بحصول اليقين بالطهارة بعد النظر والفحص. ص 264 (الثانية) - قوله أخيرا: (فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك) ودلالتها كألفقرة الأولى ظاهرة على ما تقدم في الصحيحة الأولى من ظهور كون اللام في اليقين لجنس اليقين بما هو يقين. وهذا المعنى هنا اظهر مما هو في الصحيحة الأولى. الثالثة) - قوله: (حتى تكون على يقين من طهارتك)، فانه عليه السلام إذ جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة من غسل الثوب في مورد سبق العلم بنجاسته، يظهر منه انه لو لم يحصل اليقين بالطهارة فهو محكوم بالنجاسة لمكان سبق اليقين بها. ولكن الاستدلال بهذه ألفقرة مبني على ان إحراز الطهارة ليس شرطا في الدخول في الصلاة، وإلا لو كان الإحراز شرطا فيحتمل ان يكون عليه السلام انما جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة لأجل إحراز الشرط المذكور، لا لأجل التخلص من جريان استصحاب النجاسة. فلا يكون لها ظهور في الاستصحاب. 3 - صحيحة زرارة الثالثة (قال زرارة: قلت له (أي الباقر أو الصادق عليهما السلام): من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد احرز الثنتين؟ قال: يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهد، ولا شيء عليه. وإذا لم يدر ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث - قام فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك. ولا يدخل الشك في اليقين. ولا يخلط أحدهما بالآخر. ولكن ينقض الشك باليقين. ويتم على اليقين فيبني عليه. ولا يعتد بالشك في حال من الحالات). * * * وجه الاستدلال بها - على ما قيل - انه في الشك بين الثلاث وإلاربع وقد احرز الثلاث يكون قد سبق منه اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، فيستصحب. ولذلك وجب عليه ان يضيف إليها رابعة، لأنه لا يجوز نقض اليقين بالشك، بل لا بد ان ينقضه باليقين بإتيان الرابعة فينقض شكه باليقين. وتكون هذه ص 265 ألفقرات الست كلها تأكيدا على قاعدة الاستصحاب. وقد تأمل الشيخ الأنصاري في هذا الاستدلال، لأنه انما يتم إذا كان المراد بقوله (قام فأضاف إليها أخرى) القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المرددة بين الثالثة والرابعة حتى يكون حاصل جواب الإمام البناء على الأقل. ولكن هذا مخالف للمذهب وموافق لقول العامة، بل مخالف لظاهر ألفقرة الأولى وهي قوله (ركع بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب) فانها ظاهرة بسبب تعيين ألفاتحة في إرادة ركعتين منفصلتين، اعني صلاة الاحتياط. وعليه، فيتعين ان يكون المراد به القيام بعد التسليم في الركعة المرددة إلى ركعة مستقلة منفصلة. وإذا كان الأمر كذلك فيكون المراد من اليقين في جميع ألفقرات اليقين بالبراءة والحاصل من الاحتياط بإتيان الركعة. فتكون ألفقرات الست واردة لبيان وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بفراغ الذمة. وهذا أجنبي عن قاعدة الاستصحاب. أقول: هذا خلاصة ما أفاده الشيخ، ولكن حمل ألفقرة الأولى (ولا ينقض اليقين بالشك) على إرادة اليقين ببراءة الذمة والحاصل من الأخذ بالاحتياط بعيدا جدا عن مساقها، بل أبعد من البعيد، لان ظاهر هذا التعبير بل صريحه فرض حصول اليقين ثم النهي عن نقضه في فرض حصوله، بينما ان اليقين بالبراءة انما المطلوب تحصليه وهو غير حاصل، فكيف يصح حمل هذه الجملة على الأمر بتحصيله. فلا بد ان يراد اليقين بشيء آخر غير البراءة. وعليه، فمن القريب جدا ان يراد من اليقين اليقين بوقوع الثلاث وصحتها كما هو مفروض المسألة بقوله: (وقد احرز الثلاث) - لا اليقين بعدم الإتيان برابعة كما تصوره هذا المستدل حتى يرد عليه ما أفاده الشيخ - وحينئذ فلو اراد المكلف ان يعتد بشكه فقد نقض اليقين بالشك، واعتداده بشكه بأحد أمور ثلاثة: إما بإبطال الصلاة واعادتها رأسا، واما بالأخذ باحتمال نقصانها فيكملها برابعة كما هو مذهب العامة، وأما بالأخذ باحتمال كمالها بالبناء على الأكثر فيسلم على المشكوكة من دون إتيان برابعة متصلة وخلط أحدهما بالآخر. ولأجل هذا عالج الإمام عليه السلام صلاة هذا الشاك لأجل المحافظة على يقينه بالثلاث وعدم نقضه بالشك، وذلك بأن أمره بالقيام وإضافة ركعة أخرى، ولا بد انها مفصولة، ويفهم كونها مفصولة من صدر الرواية (ركع


ص 266
بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب) فان اسلوب العلاج لا بد ان يكون واحدا في ألفرضين، مضافا إلى ان ذلك يفهم من تأكيد الإمام بان لا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر لأنه بإضافة ركعة متصلة يقع الخلط وإدخال الشك في اليقين. وعليه، فتكون الرواية دالة على قاعدة الاستصحاب من جهة، ولكن المقصود فيها استصحاب وقوع الثلاث صحيحة، كما انها تكون دالة على علاج حالة الشك الذي لا يجوز نقض اليقين به من جهة أخرى، وذلك بأمره بالقيام وإضافة ركعة منفصلة لتحصيل اليقين بصحة الصلاة لأنها ان كانت ثلاثا فقد جاء بالرابعة وان كانت أربعا تكون الركعة المنفصلة نفلا. ومنه يعلم ان المراد من اليقين في ألفقرتين الرابعة والخامسة (ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين ويبني عليه) غير اليقين من ألفقرات الأولى فان المراد به هناك اليقين بوقوع الثلاث صحيحة والمراد به في هاتين ألفقرتين اليقين بالبراءة، لأنه بإتيان ركعة منفصلة يحصل له اليقين ببراءة الذمة فيكون ذلك نقضا للشك باليقين الحادث من الاحتياط. ويفهم هذا التفصيل من المراد باليقين من الاستدراك وهو قوله (ولكنه) فانه بعد ان نهى عن نقض اليقين بالشك ذكر العلاج بقوله (لكنه) فهو أمر بنقض الشك باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه، ولا يتصور ذلك الا بإتيان ركعة منفصلة. ولا يجب - كما قيل - ان يكون المراد من اليقين في جميع ألفقرات معنى واحدا بل لا يصح ذلك فان اسلوب الكلام لا يساعد عليه، فان الناقض للشك يجب ان يكون غير الذي ينقضه الشك. والحاصل ان الرواية تكون خلاصة معناها النهي عن الإبطال والنهي على الركون إلى ما تذهب إليه العامة من البناء على الأقل والنهي عن البناء على الأكثر مع عدم الإتيان بركعة منفصلة. ثم تضمنت الأمر بعد ذلك بما يؤدي معنى الأخذ بالاحتياط بالإتيان بركعة منفصلة لأنه بهذا يتحقق نقض الشك باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه. وعلى هذا، فالرواية تتضمن قاعدة الاستصحاب وتنطبق أيضا على باقي الروايات المبينة لمذهب الخاصة، وان كانت ليست ظاهرة فيه على وجه تكون بيانا لمذهب الخاصة، ولكن صدرها يفسرها. ويظهر أن الإمام عليه السلام أوكل الحكم وتفصيله إلى معروفية هذا الحكم عند السائل والى فهمه وذوقه، ص 267 وانما اراد ان يؤكد على سر هذا الحكم والرد على من يرى خلافه الذي فيه نقض لليقين بالشك وعدم الأخذ باليقين. 4 - رواية محمد بن مسلم محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: (من كان على يقين فشك، فليمض على يقينه، فان الشك لا ينقض اليقين). وفي رواية أخرى عنه عليه السلام بهذا المضمون: (من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فان اليقين لا يدفع بالشك). استدل بعضهم بهذه الرواية على الاستصحاب مدعيا ظهورها فيه. ولكن الذي نراه انها غير ظاهرة فيه، فان القدر المسلم منها انها صريحة في ان مبدأ حدوث الشك بعد حدوث اليقين من أجل كلمة ألفاء التي تدل على الترتيب. غير ان هذا القدر من البيان يصح ان يراد منه قاعدة اليقين ويصح ان يراد منه قاعدة الاستصحاب، إذ يجوز ان يراد ان اليقين قد زال بحدوث الشك فيتحد زمان متعلقهما فتكون موردا للقاعدة الأولى، ويجوز ان يراد ان اليقين قد بقى إلى زمان الشك فيختلف زمان متعلقهما فتكون موردا للاستصحاب وليس في الرواية ظهور في أحدهما بالخصوص (1)، وان قال الشيخ الأنصاري: انها ظاهرة في وحدة زمان متعلقهما، ولذلك قرب ان تكون دالة على قاعدة اليقين، وقال الشيخ الآخوند: انها ظاهرة في اختلاف زمان متعلقهما، فقرب ان تكون دالة على الاستصحاب. وقد ذكر كل منهما تقريبات لما استظهره لا نراها ناهضة على مطلوبهما. (هامش) (1) لا يخفى ان هنا مقدمة مطوية يجب التنبيه لها، وهي أن تجرد كلمة اليقين والشك في الرواية من ذكر المتعلق يدل على وحدة المتعلق، يعني أن هذا التجرد يدل على أن ما تعلق به اليقين هو نفس ما تعلق به الشك، وإلا فان من المقطوع به انه ليس المراد اليقين بأي شيء كان والشك بأي شيء كان لا يرتبط بالمتيقن. ولكن كونها دالة على وحدة المتعلق لا يجعلها ظاهرة في كونه واحدا في جميع الجهات حتى من جهة الزمان لتكون ظاهرة في قاعدة اليقين كما قيل. (*) ص 268 وعليه فتكون الرواية مجملة من هذه الناحية، الا إذا جوزنا الجمع في التعبير بين القاعدتين وحينئذ تدل عليهما معا، يعني انها تدل على ان اليقين بما هو يقين لا يجوز نقضه بالشك سواء كان ذلك اليقين هو المجامع للشك أو غير المجامع له، وقيل: انه لا يجوز الجمع في التعبير بين القاعدتين لأنه يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مستحيل. وسيأتي ان شاء الله تعالى ما ينفع في المقام. نعم يمكن دعوى ظهورها في الاستصحاب بالخصوص، بان يقال - كما قربه بعض اساتذتنا -: ان الظاهر في كل كلام هو اتحاد زمان النسبة مع زمان الجري، فقوله عليه السلام: (فليمض على يقينه) يكون ظاهرا في ان زمان نسبة وجوب المضي على اليقين نفس زمان حصول اليقين. ولا ينطبق ذلك الا على الاستصحاب لبقاء اليقين في مورده محفوظا إلى زمان العمل به. واما قاعدة اليقين فان موردها الشك الساري فيكون اليقين في ظرف وجوب العمل به معدوما. ولعله من أجل هذا الظهور استظهر من استظهر دلالة الرواية على الاستصحاب. 5 - مكاتبة علي بن محمد القاساني قال: كتبت إليه - وانا بالمدينة - عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك. صم للرؤية وافطر للرؤية. قال الشيخ الأنصاري: (والإنصاف ان هذه الرواية اظهرها في هذا الباب، الا ان سندها غير سليم). وذكر في وجه دلالتها: (ان تفريع تحديد كل من الصوم والافطار على رؤية هلالي رمضان وشوال لا يستقيم الا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك، أي مزاحما به). وقد اورد عليه صاحب الكفاية بما محصله مع توضيح منا: انا نمنع من ظهور هذه الرواية في الاستصحاب فضلا عن أظهريتها، نظر إلى ان دلالتها عليه تتوقف على أن يراد من اليقين اليقين بعدم دخول رمضان وعدم دخول شوال، ولكن ليس من البعيد ان يكون المراد به اليقين بدخول رمضان المنوط به وجوب الصوم واليقين بدخول شوال المنوط به وجوب الافطار. ومعنى انه لا يدخله الشك انه لا يعطي حكم اليقين للشك ولا ينزل منزلته، بل المدار ص 269 في وجوب الصوم والافطار على اليقين فقط، فانه وحده هو المناط في وجوبهما، أي ان الصوم والافطار يدوران مداره. ولذا قال بعده: (صم للرؤية وافطر للرؤية) مؤكدا لاشتراط وجوب الصوم والافطار باليقين. وهذا المضمون دلت عليه جملة من الأخبار بقريب من هذا التعبير مما يقرب ارادته من هذه الرواية ويؤكده. ولا بأس في ذكر بعض هذه الأخبار لتتضح موافقتها لهذه الرواية: (منها) قول أبي جعفر عليه السلام: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا. وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية). و (منها): صم للرؤية وافطر للرؤية. واياك والشك والظن. فان خفى عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين. و (منها): صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن.

مدى دلالة الأخبار 

ان تلك الأخبار العامة المتقدمة هي أهم ما استدل به للاستصحاب. وهناك أخبار خاصة تؤيدها. ذكر بعضها الشيخ الأنصاري، ونحن نذكر واحدة منها للاستئناس، وهي رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير. قال: فهل علي أن اغسله؟ فقال: لا! لانك أعرته اياه وهو طاهر، ولم تستيقن انه نجسه. قال الشيخ: (وفيها دلالة واضحة على أن وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها). والمهم لنا ان نبحث الآن عن مدى دلالة تكلم الأخبار من جهة بعض التفصيلات المهمة في الاستصحاب، فنقول: 1 - التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية: إن المنسوب إلى الأخباريين اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة ص 270 الموضوعية، وأما الشبهات الحكمية مطلقا فعلى القاعدة عندهم من وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط. وعلل ذلك بعضهم بان أخبار الاستصحاب لا عموم لها ولا إطلاق يشمل الشبهة الحكمية، لان القدر المتيقن منها خصوص الشبهة الموضوعية، لا سيما ان بعضها وارد في خصوصها، فلا تعارض أدلة الاحتياط. ولكن الإنصاف ان لأخبار الاستصحاب من قوة الإطلاق والشمول ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة الحكمية، ولا سيما ان أكثرها وارد مورد التعليل وظاهرها تعليق الحكم على اليقين من جهة ما هو يقين، كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الأولى. فيكون شمولها للشبهة الحكمية حينئذ من باب التمسك بالعلة المنصوصة. على أن رواية محمد بن مسلم المتقدمة عامة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعية. فالحق شمول الأخبار للشبهتين. واما أدلة الاحتياط فقد تقدمت المناقشة في دلالتها فلا تصلح لمعارضة أدلة الاستصحاب. 2 - التفصيل بين الشك في المقتضى والرافع: هذا هو القول التاسع المتقدم، والأصل فيه المحقق الحلي، ثم المحقق الخونساري، وأيده كل التأييد الشيخ الأعظم، وقد دعمه جملة من تأخر عنه. وخالفهم في ذلك الشيخ الآخوند فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا وهو الحق ولكن بطريقة أخرى غير التي سلكها الشيخ الآخوند. ومن أجل هذا اصبح هذا التفصيل من أهم الأقوال التي عليها مدار المناقشات العلمية في عصرنا. ويلزمنا النظر فيه من جهتين: من جهة المقصود من المقتضى والمانع، ومن جهة مدى دلالة الأخبار عليه. 1 - المقصود من المقتضى والمانع ونحيل ذلك إلى تصريح الشيخ نفسه فقد قال: (المراد بالشك من جهة المقتضى: الشك من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشك في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد الزمان الأول). فيفهم منه انه ليس المراد من المقتضى - كما قد ينصرف ذلك من إطلاق كلمة المقتضى - مقتضي الحكم اي الملاك والمصلحة فيه، ولا المقتضي لوجود ص 271 الشيء في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي، مثل؟؟ أن يقال: ان الوضوء مقتض للطهارة وعقد النكاح مقتض للزوجية. بل المراد نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء وقابليته له من أية جهة كانت تلك القابلية وسواء فهمت هذه القابلية من الدليل أو من الخارج. ويختلف ذلك باختلاف المستصحبات وأحوالها، فليس فيه نوع ولا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد، كما صرح بذلك الشيخ. والتعبير عن الشك في القابلية بالشك في المقتضي فيه نوع من المسامحة توجب الأيهام. وينبغي أن يعبر عنه بالشك في اقتضائه للبقاء لا الشك في المقتضي، ولكن بعد وضوح المقصود فالأمر سهل. واما الشك في الرافع، فعلى هذا يكون المقصود منه الشك في طرو ما يرفع المستصحب مع القطع باستعداده وقابليته للبقاء لولا طرو الرفع، كما صرح به الشيخ، وذكر انه على اقسام. والمتحصل من مجموع كلامه في جملة مقامات انه ينقسم إلى قسمين رئيسين: الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود. وهذا القسم الثاني انكر المحقق السبزواري حجية الاستصحاب فيه باقسامه الثلاثة الآتية وهو القول العاشر في تعداد الأقوال. ونحن نذكر هذه الاقسام لتوضيح مقصود الشيخ. 1 - (الشك في وجود الرافع). ومثل له بالشك في حدوث البول مع العلم بسبق الطهارة. وهو رحمه الله لا يعني به إلا الشك في الشبهة الموضوعية خاصة واما ما كان في الشبهة الحكمية فلا يعمه كلامه، لان الشك في وجود الرافع فيها ينحصر عنده في الشك في النسخ خاصة لأنه لا معنى لرفع الحكم إلا نسخه. وإجراء الاستصحاب في عدم النسخ - كما قال - إجماعي بل ضروري. والسر في ذلك ما تقدم في مباحث النسخ في الجزء الثالث من أن إجماع المسلمين قائم على انه لا يصح النسخ الا بدليل قطعي، فمع الشك لا بد أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك نسخه، أي ان الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع، لا لأجل حجية الاستصحاب. 2 - (الشك في رافعية الموجود). وذلك بأن يحصل شيء معلوم الوجود قطعا ولكن يشك في كونه رافعا للحكم. وهو على اقسام ثلاثة: (الأول) - فيما إذا كان الشك من أجل تردد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعا له وبين ما يكون. ومثل له بما إذا علم بانه مشغول الذمة بصلاة ص 272 ما، في ظهر يوم الجمعة، ولا يعلم انها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر فإذا صلى الظهر مثلا فانه يتردد أمره لا محالة في أن هذه الصلاة الموجودة التي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمة بالتكليف المذكور أو غير رافعة. (الثاني) - فيما إذا كان الشك من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه رافعا مستقلا في الشرع، كالمذي المشكوك في كونه ناقضا للطهارة، مع العلم بعدم كونه مصداقا للرافع المعلوم وهو البول. (الثالث) - فيما إذا كان الشك من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه مصداقا للرافع المعلوم مفهومه أو من أجل الجهل به في كونه مصداقا للرافع المجهول مفهومه. مثال الأول الشك في الرطوبة الخارجة في كونها بولا، أو مذيا مع معلومية مفهوم البول والمذي وحكمهما. ومثال الثاني الشك في النوم الحادث في كونه غالبا للسمع والبصر أو غالبا للبصر فقط مع الجهل بمفهوم النوم الناقض في انه يشمل النوم الغالب للبصر فقط. ورأي الشيخ ان الاستصحاب يجري في جميع هذه الاقسام، سواء كان شكا في وجود الرافع أو في رافعية الموجود بأقسامه الثلاثة، خلافا للمحقق السبزواري إذ اعتبر الاستصحاب في الشك في وجود الرافع فقط دون الشك في رافعية الموجود كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. 2 - مدى دلالة الأخبار على هذا التفصيل قال الشيخ الأعظم: (ان حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل. وإلاقرب إليه على تقدير مجازيته هو رفع الأمر الثابت) إلى ان قال: (فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار). وعليه، فلا يشمل اليقين المنهي عن نقضه بالشك في الأخبار اليقين إذا تعلق بأمر ليس من شأنه الاستمرار أو المشكوك استمراره. توضيح مقصوده مع المحافظة على ألفاظه حد الامكان: ان النقض لغة لما كان معناه رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل، فان هذا المعنى الحقيقي ليس هو المراد من الروايات قطعا، لان المفروض في مواردها طرو الشك في استمرار المتيقن، فلا هيئة اتصالية باقية لليقين ولا لمتعلقه بعد الشك في بقائه واستمراره. ص 273 فيتعين ان يكون اسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز، ولكن هذا المجاز له معنيان يدور الأمر بينهما، وإذا تعددت المعاني المجازية فلا بد أن يحمل اللفظ على أقربها إلى المعنى الحقيقي. وهذا يكون قرينة معينة للمعنى المجازي. وهنا المعنيان المجازيان أحدهما أقرب من الآخر، وهما: 1 - ان يراد من النقض مطلق رفع اليد عن الشيء وترك العمل به وترتيب الأثر عليه ولو لعدم المقتضي له، فيكون المنقوض عاما شاملا لكل يقين. 2 - ان يراد منه رفع الأمر الثابت. وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي، فهو الظاهر من اسناد النقض. وحينئذ فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى. والظاهر رجحان هذا المعنى الثاني على الأول، لان ألفعل الخاص بصير مخصصا لمتعلقه إذا كان متعلقه عاما، كما في قول القائل: (لا تضرب أحدا)، فان الضرب يكون قرينة على اختصاص متعلقه بالاحياء، ولا يكون عمومه للاموات قرينة على إرادة مطلق الضرب. * * * هذه خلاصة ما أفاده الشيخ، وقد وقعت فيه عدة مناقشات نذكر أهمها ونذكر ما عندنا ليتضح مقصوده وليتجلى الحق ان شاء الله تعالى: 1 - (المناقشة الأولى) - ان النقض يقابل الابرام. والنقض كما فسروه في اللغة -: افساد ما أبرمت من عقد أو بناء أو حبل أو نحو ذلك. وعليه، فتفسيره من الشيخ برفع الهيئة الاتصالية ليس واضحا بل ليس صحيحا، إذ ان مقابل الاتصال الانفصال، فيكون معنى النقض حينئذ انفصال المتصل. وهو بعيد جدا عن معنى نقض العهد والعقد. أقول: ليس من البعيد أن يريد الشيخ من الاتصال ما يقابل الانحلال وإن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير، لا ما يقابل الانفصال. فلا إشكال. ص 274 2 - (المناقشة الثانية)، وهي أهم مناقشة عليها يبتني صحة استدلاله على التفصيل أو بطلانه. وحاصلها: ان هذا التوجيه من الشيخ للاستدلال يتوقف على التصرف في اليقين بإرادة المتيقن منه، كما نبه عليه نفسه، لأنه لو كان النقض مستندا إلى نفس اليقين كما هو ظاهر التعبير فان اليقين بنفسه مبرم ومحكم فيصح اسناد النقض إليه ولو لم يكن لمتعلقه في ذاته استعداد البقاء، ضرورة انه لا يحتاج فرض الابرام في المنقوض إلى فرض ان يكون متعلق اليقين ثابتا ومبرما في نفسه حتى تختص حرمة النقص بالشك في الرافع. ولكن لا يصح إرادة المتيقن من اليقين على وجه يكون الاسناد اللفظي إلى نفس المتيقن، لأنه انما يصح ذلك إذا كان على نحو المجاز في الكلمة أو على نحو حذف المضاف، وكلا الوجهين بعيدان كل البعد إذ لا علاقة بين اليقين والمتيقن حتى يصح استعمال أحدهما مكان الآخر على نحو المجاز في الكلمة، بل ينبغي ان يعد ذلك من الاغلاط. واما تقدير المضاف بأن نقدر متعلق اليقين أو نحو ذلك فان تقدير المحذوف يحتاج إلى قرينة لفظية مفقودة. ومن أجل هذا استظهر المحقق الآخوند عموم الأخبار لموردي الشك في المقتضي والرافع، لان النقض إذا كان مسندا إلى نفس اليقين فلا يحتاج في صحة اسناد النقض إليه إلى فرض ان يكون المتيقن مما له استعداد للبقاء. أقول: ان البحث عن هذا الموضوع بجميع اطرافه وتعقيب كل ما قيل في هذا الشأن من اساتذتنا وغيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة، فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحق في المسألة متجنبين الإشارة إلى خصوصيات الآراء وإلاقوال فيها حد الامكان. وعليه فنقول: ينبغي تقديم مقدمات قبل بيان المختار، وهي: (أولا) - انه لا شك في ان النقض المنهي عنه مسند إلى اليقين في لفظ الأخبار، وظاهرها ان وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية للتمسك به وعدم نقضه في قبال الشك الذي هو عين الوهن والتزلزل، لا سيما مع التعبير في بعضها بقوله عليه السلام: (لا ينبغي)، والتعليل في البعض الآخر بوجود اليقين المشعر بعليته للحكم كما سبق بيانه في قوله عليه السلام: (فانه على يقين من وضوئه)، ولا سيما مع مقابلة اليقين بالشك، ولا شك انه ليس المراد من الشك المشكوك. ص 275 وعلى هذا يتضح جليا ان حمل اليقين على إرادة المتيقن على وجه يكون الاسناد اللفظي إلى المتيقن بنحو المجاز في الكلمة أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها بل خلاف سياقها بل مستهجن جدا فيتأيد ما قاله المعترض ولذا استبعد شيخنا المحقق النائيني ان يريد الشيخ الأعظم من المجاز المجاز في الكلمة، وهو استبعاد في محله وأبعد منه إرادة حذف المضاف. (ثانيا) - انه من المسلم به عند الجميع الذي لا شك فيه أيضا ان النهي عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. والسر واضح، لان اليقين حسن ألفرض منتقض فعلا بالشك فلا يقع تحت اختيار المكلف فلا يصح النهي عنه. وحينئذ، فلا معنى للنهي عنه إلا ان يراد به عدم الاعتناء بالشك عملا والبناء عليه كأنه لم يكن، لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشك، ولكن لا يصح ان يقصد أحكام اليقين من جهة انه صفة من الصفات لارتفاع أحكامه بارتفاعه قطعا، فلم يكن رفع اليد عن الحكم عملا نقضا له بالشك بل باليقين لزوال موضوع الحكم قطعا. وعليه، فالمراد من الأحكام الأحكام الثابتة للمتيقن بواسطة اليقين به، فهو تعبير آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق. بمعنى وجوب العمل في مقام الشك بمثل العمل في مقام اليقين كأن الشك لم يكن، فكأنه قال: أعمل في حال شكك كما كنت تعمل في حال يقينك ولا تعتني بالشك. إذا عرفت ذلك فيبقى ان نعرف على أي وجه يصح أن يكون التعبير بحرمة نقض اليقين تعبيرا عن ذلك المعنى، فان ذلك لا يخلو بحسب التصور عن أحد أمور أربعة: 1 - ان يكون المراد من اليقين المتيقن على نحو المجاز في الكلمة. 2 - ان يكون النقض أيضا متعلقا في لسان الدليل بنفس المتيقن ولكن على حذف المضاف. 3 - ان يكون النقض المنهي عنه مسندا إلى اليقين على نحو المجاز في الاسناد ويكون في الحقيقة مسندا إلى نفس المتيقن، والمصحح لذلك اتحاد اليقين والمتيقن أو كون اليقين آلة وطريقا إلى المتيقن. ص 276 4 - ان يكون النهي عن نقض اليقين كناية عن لزوم العمل بالمتيقن وإجراء أحكامه، لان ذلك لازم معناه، باعتبار ان اليقين بالشيء مقتض للعمل به، فحله يلازم رفع اليد عن ذلك الشيء أو عن حكمه، إذ لا يبقى حينئذ ما يقتضي العمل به، فالنهي عن حله يلزمه النهي عن ترك مقتضاه، اعني النهي عن ترك العمل بمتعلقه. وقد عرفت في (المقدمة الأولى) وفي مناقشة الشيخ بعد إرادة الوجهين الأولين، فيدور الأمر بين الثالث والرابع، والرابع هو الاوجه وإلاقرب، ولعله هو مراد الشيخ الأعظم، وان كان الذي يبدو من بعض تعبيراته إرادة الوجه الأول الذي استبعد شيخنا المحقق النائيني ان يكون مقصوده ذلك كما تقدم. اما هو - اعني شيخنا النائيني - فلم يصرح بإرادة أي من الوجهين الآخرين، والأنسب في عبارة بعض المقررين لبحثه إرادة الوجه الثالث إذ قال: (انه يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن). وعلى كل حال فالوجه الرابع اعني الاستعمال الكنائي أقرب الوجوه وأولاها، وفيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره، كما ان فيه المحافظة على ظهور الأخبار وسياقها في اسناد النقض إلى نفس اليقين، وقد استظهرنا منها كما تقدم في المقدمة الأولى ان وثاقة اليقين بما هو يقين هي المقتضية للتمسك به. وفي الكناية - كما هو المعروف - بيان للمراد مع إقامة الدليل عليه، فان المراد الاستعمالي هنا الذي هو حرمة نقض اليقين بالشك يكون كالدليل والمستند للمراد الجدي المقصود الأصلي في البيان، والمراد الجدي هو لزوم العمل على وفق المتيقن بلسان النهي عن نقض اليقين. (ثالثا) - بعد ما تقدم ان نسأل عن المراد من النقض في الأخبار هل المراد النقض الحقيقي أو النقض العملي؟ المعروف ان إرادة النقض الحقيقي محال فلا بد أن يراد النقض العملي، لان نقض اليقين - كما تقدم - ليس تحت اختيار المكلف فلا يصح النهي عنه. وعلى هذا بنى الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية وغيرهما. ولكن التدقيق في المسألة يعطي غير هذا: انما يلزم هذا المحذور لو كان النهي عن نقض اليقين مرادا جديدا، اما على ما ذكرناه من أنه على وجه الكناية، فانه - كما ذكرنا - يكون مرادا استعماليا فقط، ولا محذور في كون المراد الاستعمالي - في الكناية - محالا أو كاذبا في نفسه، انما المحذور إذا كان المراد الجدي المكنى عنه كذلك. ص 277 وعليه، فحمل النقض على معناه الحقيقي أولى ما دام ان ذلك يصح بلا محذور. النتيجة: إنه إذا تمت هذه المقدمات فصح اسناد النقض الحقيقي إلى اليقين من أجل وثاقته من جهة ما هو يقين، وان كان النهي عنه يراد به لازم معناه على سبيل الكناية - فانا نقول: ان اليقين لما كان في نفسه مبرما ومحكما فلا يحتاج في صحة اسناد النقض إليه إلى فرض ان يكون متعلقه مما له استعداد في ذاته للبقاء، وإنما يلزم ذلك لو كان الاسناد اللفظي إلى نفس المتيقن ولو على نحو المجاز. وأما كون ان المراد الجدي هو النهي عن ترك مقتضى اليقين الذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقن، فان ذلك مراد لبي وليس فيه اسناد للنقض إلى المتيقن في مقام اللفظ حتى يكون ذلك قرينة لفظية على المراد من المتيقن. والسر في ذلك ان الكناية لا يقدر فيها لفظ المكنى عنه على ان المكنى عنه ليس هو حرمة نقض المتيقن بل - كما تقدم - هو حرمة ترك مقتضى اليقين الذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقن، فلا نقض مسند إلى المتيقن لا لفظا ولا لبا، حتى يكون ذلك قرينة على ان المراد من المتيقن هو ماله استعداد في ذاته للبقاء لأجل ان يكون مبرما يصح اسناد النقض إليه. الخلاصة: وخلاصة ما توصلنا إليه هو: ان الحق ان النقض مسند إلى نفس اليقين بلا مجاز في الكلمة ولا في الاسناد ولا على حذف مضاف، ولكن النهي عنه جعل عنوانا على سبيل الكناية عن لازم معناه، وهو لزوم الأخذ بالمتيقن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعية عليه، وهذا المكنى عنه عبارة أخرى عن الحكم ببقاء المتيقن. وإذا كان النهي عن نقض اليقين من باب الكناية فلا يستدعي ذلك ان نفرض في متعلقه استعداد البقاء ليتحقق معنى النقض لأنه متحقق بدون ذلك. وعليه فمقتضى الأخبار حجية الاستصحاب في موردي الشك في المقتضى والرافع معا. ونحن إذا توصلنا إلى هنا من بيان حجية الاستصحاب مطلقا في مقابل ص 278 التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري - لا نجد كثير حاجة في التعرض للتفصيلات الأخرى في هذا المختصر ونحيل ذلك إلى المطولات لا سيما رسالة الشيخ في الاستصحاب فان في ما ذكره الغنى والكفاية. * * * ص 279

تنبيهات الاستصحاب 

بعد فراغ الشيخ الأنصاري من ذكر الأقوال في المسألة ومناقشتها شرع في بيان أمور تتعلق به بلغت اثني عشر أمرا، واشتهرت باسم (تنبيهات الاستصحاب)، فصار لها شأن كبير عند الأصوليين، وصارت موضع عنايتهم، لما لأكثرها من ألفوائد الكبيرة في ألفقه ولما لها من المباحث الدقيقة الأصولية. وزاد فيها شيخ أساتذتنا في الكفاية تنبيهين فصارت أربعة عشر تنبيها. ونحن ذاكرون بعون الله تعالى أهمها متوخين الاختصار حد الامكان وإلاقتصار على ما ينفع الطالب المبتدئ. التنبيه الأول استصحاب الكلي (1) الغرض من استصحاب الكلي: هو استصحابه فيما إذا تيقن بوجوده في ضمن فرد من أفراد ثم شك في بقاء نفس ذلك الكلي. وهذا الشك في بقاء الكلي في ضمن أفراده يتصور على أنحاء ثلاثة عرفت باسم اقسام استصحاب الكلي: 1 - ان يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء نفس ذلك ألفرد الذي تيقن بوجوده. 2 - ان يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في تعيين ذلك ألفرد المتيقن سابقا بأن يتردد ألفرد بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع جزما، اي انه كان قد تيقن على الإجمال بوجود فرد ما من أفراد الكلي فيتيقن بوجود الكلي في ضمنه، ولكن هذا ألفرد الواقعي مردد عنده بين ان يكون له عمر طويل فهو باق جزما في الزمان الثاني وبين ان يكون له عمر قصير فهو مرتفع جزما في الزمان الثاني. ومن أجل هذا الترديد يحصل له الشك في بقاء الكلي. مثاله: ما إذا علم على الإجمال بخروج بلل مردد بين أن يكون بولا أو
(هامش) (1) هذا هو التنبيه الأول في تعداد الرسائل والتنبيه الثالث في تعداد الكفاية. (*) ص 280 منيا، ثم توضأ فانه في هذا الحال يتيقن بحصول الحدث الكلي في ضمن هذا ألفرد المردد، فان كان البلل بولا فحدثه أصغر قد ارتفع بالوضوء جزما وان كان منيا فحدثه اكبر لم يرتفع بالوضوء، فعلى القول بجريان استصحاب الكلي يستصحب هنا كلي الحدث، فتترتب عليه آثار كلي الحدث مثل حرمة مس المصحف، أما آثار خصوص الحدث الاكبر أو الاصغر فلا تترتب مثل حرمة دخول المسجد وقراءة العزائم. 3 - ان يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في وجود فرد آخر مقام ألفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه، أي ان الشك في بقاء الكلي مستند إلى احتمال وجود فرد ثان غير ألفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه، لأنه ان كان ألفرد الثاني قد وجد واقعا فان الكلي باق بوجوده وان لم يكن قد وجد فقد انقطع وجود الكلي بارتفاع ألفرد الأول. أما (القسم الأول) - فالحق فيه جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي فيترتب عليه أثره الشرعي، كما لا كلام في جريان استصحاب نفس ألفرد فيترتب عليه أثره الشرعي بما له من الخصوصية ألفردية. وهذا لا خلاف فيه. وأما (القسم الثاني) - فالحق فيه أيضا جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي، واما بالنسبة إلى ألفرد فلا يجري قطعا، بل ألفرد يجري فيه استصحاب عدم خصوصية ألفرد، ففي المثال المتقدم يجري استصحاب كلي الحدث بعد الوضوء فلا يجوز له مس المصحف، اما بالنسبة إلى خصوصية ألفرد فالأصل عدمها، فما هو آثار خصوص الجنابة مثلا لا يجب الأخذ بها فلا يحرم قبل الغسل ما يحرم على الجنب من نحو دخول المساجد وقراءة العزائم كما تقدم. ولأجل بيان صحة جريان الاستصحاب في الكلي في هذا القسم الثاني وحصول أركانه لابد من ذكر ما قيل انه مانع من جريانه والجواب عنه. وقد اشار الشيخ إلى وجهين في المنع وأجاب عنهما، وهما كل ما يمكن ان يقال في المنع: (الأول) - قال: (وتوهم عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث وهو محكوم الانتفاء بحكم الأصل). توضيح التوهم: ان أهم أركان الاستصحاب هو اليقين بالحدوث والشك في البقاء، وفي المقام ان حصل الركن الأول وهو اليقين بالحدوث، فان الركن ص 281 الثاني وهو الشك في البقاء غير حاصل. وجه ذلك ان الكلي لا وجود له الا بوجود أفراده، ومن الواضح ان وجود الكلي في ضمن ألفرد القصير مقطوع الارتفاع في الزمان الثاني وجدانا، وأما وجوده في ضمن ألفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث من أول الأمر وهو منفي بالأصل فيكون الكلي مرتفعا في الزمان الثاني إما وجدانا أو بالأصل تعبدا، فلا شك في بقائه. والجواب: ان هذا التوهم فيه خلط بين الكلي وفرده، أو فقل فيه خلط بين ذات الحصة من الكلي أي ذات الكلي الطبيعي وبين الحصة منه بما لها من الخصوصية والتعين الخاص، فان الذي هو معلوم الارتفاع اما وجدانا لو تعبدا انما هو الحصة بما لها من التعين الخاص، وهي بالإضافة إلى ذلك غير معلومة الحدوث أيضا، فلم يتحقق فيها الركنان معا، لأنه كما ان كل فرد من ألفردين مشكوك الحدوث في نفسه فان الحصة الموجودة به بما لها من التعين الخاص كذلك مشكوكة الحدوث، إذ لا يقين بوجود هذه الحصة ولا يقين بوجود تلك الحصة، ولا موجود ثالث حسب ألفرض. واما ذات الحصة المتعينة واقعا لا بما لها من التعين الخاص بهذا ألفرد أو بذلك ألفرد أي القدر المشترك بينهما، ففي الوقت الذي هي فيه معلومة الحدوث هي مشكوكة البقاء إذ لا علم بارتفاعها ولا تعبد بارتفاعها بل لأجل القطع بزوال التعين الخاص يشك في ارتفاعها وبقائها لاحتمال كون تعينها هو التعين الباقي أو هو التعين الزائل، وارتفاع ألفرد لا يقتضي الا ارتفاع الحصة المتعينة به، وهي كما قدمنا غير معلومة الحدوث وانما المعلوم ذات الحصة أي القدر المشترك. والحاصل: ان ما هو غير مشكوك البقاء اما وجدانا أو تعبدا لا يقين بحدوثه أصلا وهو الحصة بما لها من التعين الخاص وما هو متيقن الحدوث هو مشكوك البقاء وجدانا وهو ذات الحصة لا بما لها من التعين الخاص. وقد اشار الشيخ إلى هذا الجواب بقوله: (انه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشك في بقائه وارتفاعه). (الثاني) - قال الشيخ الأعظم: (توهم كون الشك في بقائه مسببا عن الشك في حدوث ذلك المشكوك، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترك لأنه من آثاره). والجواب الصحيح هو ما اشار إليه بقوله: (ان ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع لا من لوازم عدم حدوث ص 282 الأمر الآخر. نعم اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين. وبينهما فرق واضح). توضيح ما أفاده من الجواب: انا نمنع ان يكون الشك في بقاء القدر المشترك - أي الكلي - مسببا عن الشك في حدوث ألفرد الطويل وعدمه، لان الكلي - حسب الفرض - متيقن الحدوث من أول الأمر اما في ضمن القصير أو الطويل فلا يعقل ان يكون عدمه بعد وجوده مستندا إلى عدم ألفرد الطويل من الأول وإلا لما وجد من الأول، بل في الحقيقة ان الشك في بقاء الكلي أي في وجوده وعدمه بعد فرض القطع بوجوده مستند إلى احتمال وجود هذا ألفرد الطويل مع احتمال وجود ذلك ألفرد القصير يعني يستند إلى الاحتمالين معا لا لخصوص احتمال وجود الطويل، إذ يحتمل بقاء وجوده الأول لاحتمال حدوث الطويل ويحتمل عدمه بعد الوجود لاحتمال حدوث القصير المرتفع قطعا في ثاني الحال. والحاصل: ان احتمال وجود الكلى وعدمه في ثاني الحال مسبب عن الشك في ان الحادث المعلوم هل هو الطويل أو القصير، لا انه مسبب عن خصوص احتمال حدوث الطويل حتى يكون نفيه بالأصل موجبا لنفي الشك في وجود الكلي في ثاني الحال، فلا بد من نفي كل من ألفردين بالأصل حتى يكون ذلك موجبا لارتفاع القدر المشترك والأصلان معا لا يجريان مع فرض العلم الإجمالي. وأما (القسم الثالث) - وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلى مستندا إلى احتمال وجود فرد ثان غير ألفرد المعلوم حدوثه ثم ارتفاعه - فهو على نحوين: 1 - ان يحتمل حدوث ألفرد الثاني في ظرف وجود الأول. 2 - ان يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الأول، وهو على نحوين: اما يتبدله إليه أو بمجرد المقارنة الاتفاقية بين ارتفاع الأول وحدوث الثاني. وفي جريان الاستصحاب في هذا (القسم الثالث) من الكلى احتمالات أو أقوال ثلاثة: أ - جريانه مطلقا. ب - عدم جريانه مطلقا. ص 283 ج‍ - التفصيل بين النحوين المذكورين، فيجري في الأول دون الثاني مطلقا. وهذا التفصيل هو الذي مال إليه الشيخ الأعظم. والسر في الخلاف يعود إلى: أن الأركان في الاستصحاب هل هي متوفرة هنا أو غير متوفرة، والمشكوك توفره في المقام هو الركن الخامس، وهو اتحاد متعلق اليقين والشك. ولا شك في أن الكلي المتيقن نفسه هو المشكوك بقاؤه في هذا القسم فهو واحد نوعا، فينبغي ان يسأل: أولا - هل هذه الوحدة النوعية بين المتيقن والمشكوك كافية في تحقق الوحدة المعتبرة في الاستصحاب أو غير كافية بل لا بد له من وحدة خارجية. ثانيا - بعد فرض عدم كفاية الوحدة النوعية هل أن الكلى الطبيعي له وحدة خارجية بوجود أفراده، بمعنى انه يكون بوحدته الخارجية معروضا لتعينات أفراده المتبائنة، بناء على ما قيل من ان نسبة الكلى إلى أفراده من باب نسبة الاب الواحد إلى الابناء الكثيرة كما نقل ذلك ابن سينا عن بعض من عاصره، أو ان الكلى الطبيعي لا وجود له إلا بوجود أفراده بالعرض ففي كل فرد حصة موجودة منه غير الحصة الموجودة في فرد آخر، فلا تكون له وحدة خارجية بوجود أفراده المتعددة بل نسبته إلى أفراده من قبيل نسبة الآباء المتعددة إلى الابناء المتعددة، وهذا هو المعروف عند المحققين. فالقائل بجريان الاستصحاب في هذا القسم اما أن يلتزم بكفاية الوحدة النوعية في تحقق ركن الاستصحاب واما ان يلتزم بأن الكلى له وحدة خارجية بوجود أفراده المتعددة، وإلا فلا يجري الاستصحاب. وإذا اتضح هذا التحليل الدقيق لمنشأ الأقوال في المسألة يتضح الحق فيها، وهو القول الثاني وهو عدم جريان الاستصحاب مطلقا. أما (أولا)، فلأنه من الواضح عدم كفاية الوحدة النوعية في الاستصحاب، لان معنى بقاء المستصحب فيه هو استمراره خارجا بعد اليقين به. ونحن لا نعني من استصحاب الكلى استصحاب نفس الماهية من حيث هي فان هذا لا معنى له، بل المراد استصحابها بما لها من الوجود الخارجي لغرض ترتيب أحكامها ألفعلية. وأما (ثانيا)، فلأنه من الواضح أيضا ان الحق ان نسبة الكلي إلى أفراده ص 284 من قبيل نسبة الآباء إلى الابناء، لأنه من الضروري أن الكلي لا وجود له إلا بالعرض بوجود أفراده. وفي مقامنا قد وجدت حصة من الكلي وقد ارتفعت هذه الحصة يقينا، والحصة الأخرى منه في ألفرد الثاني هي من أول الأمر مشكوكة الحدوث، فلم يتحد المتيقن والمشكوك. وبهذا يتفرق القسم الثالث عن القسم الثاني من استصحاب الكلي، لأنه في القسم الثاني - كما سبق - ذات الحصة من الكلي المتعينة واقعا المعلومة الحدوث على الإجمال هي نفسها مشكوكة البقاء، حيث لا يدرى انها الحصة المضافة إلى ألفرد الطويل أو ألفرد القصير. وبهذا أيضا يتضح انه لا وجه للتفصيل المتقدم الذي مال إليه الشيخ الأعظم، فان احتمال وجود ألفرد الثاني في ظرف وجود ألفرد الأول لا يقدم ولا يؤخر ولا يضمن الوحدة الخارجية للمتيقن والمشكوك إلا إذا قلنا بمقالة من يذهب إلى أن نسبة الكلى إلى أفراده من قبيل نسبة الاب الواحد إلى ابنائه، وحاشا الشيخ ان يرى هذا الرأي. ولا شك ان الحصة الموجودة في ضمن ألفرد الثاني من أول الأمر مشكوكة الحدوث، واما المتيقن حدوثه فهو حصة أخرى وهي في عين الحال متيقنة الارتفاع. ويكون وزان هذا القسم وزان استصحاب ألفرد المردد الآتي ذكره. (تنبيه) وقد استثنى من هذا القسم الثالث ما يتسامح به العرف فيعدون ألفرد اللاحق المشكوك الحدوث مع ألفرد السابق كالمستمر الواحد، مثل ما لو علم السواد الشديد في محل وشك في ارتفاعه أصلا أو تبدله بسواد أضعف، فانه في مثله حكم الجميع بجريان الاستصحاب. ومن هذا الباب ما لو كان شخص كثير الشك ثم شك في زوال صفة كثرة الشك عنه أصلا أو تبدلها إلى مرتبة من الشك دون الأولى. قال الشيخ الأعظم في تعليل جريان الاستصحاب في هذا الباب: العبرة في جريان الاستصحاب عد الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق، ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقة للفرد السابق). يعني ان العبرة في اتحاد المتيقن والمشكوك هو الاتحاد عرفا وبحسب النظر المسامحي وان كانا بحسب الدقة العقلية متغايرين كما في المقام. * * * ص 285 التنبيه الثاني (1) الشبهة العبائية أو استصحاب ألفرد المردد ينقل ان السيد الجليل السيد اسماعيل الصدر قدس سره زار النجف الاشرف ايام الشيخ المحقق الآخوند فأثار في أوساطها العلمية مسألة تناقلوها وصارت عندهم موضعا للرد والبدل واشتهرت بالشبهة العبائية. وحاصلها: انه لو وقعت نجاسة على أحد طرفي عباءة ولم يعلم انه الطرف الاعلى أو الاسفل، ثم طهر أحد الطرفين وليكن الاسفل مثلا، فان تلك النجاسة المعلومة الحدوث تصبح نفسها مشكوكة الارتفاع فينبغي ان يجري استصحابها، بينما ان مقتضى جريان استصحاب النجاسة في هذه العباءة أن يحكم بنجاسة البدن - مثلا - الملاقي لطرفي العباءة معا. مع ان هذا اللازم باطل قطعا بالضرورة، لان ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة محكوم عليه بالطهارة بالإجماع كما تقدم في محله. وهنا لم يلاق البدن الا أحد طرفي الشبهة وهو الطرف الاعلى وأما الطرف الاسفل - وان لاقاه - فانه قد خرج عن طرف الشبهة - حسب ألفرض - بتطهيره يقينا فلا معنى للحكم بنجاسة ملاقيه. والنكتة في الشبهة ان هذا الاستصحاب يبدو من باب استصحاب الكلي من القسم الثاني، ولا شك في ان مستصحب النجاسة لا بد أن يحكم بنجاسة ملاقيه، بينما انه هنا لا يحكم بنجاسة الملاقي، فيكشف ذلك عن عدم صحة استصحاب الكلي القسم الثاني. وقد استقر الجواب عند المحققين عن هذه الشبهة على: ان هذا الاستصحاب ليس من باب استصحاب الكلي، بل هو من نوع آخر سموه (استصحاب ألفرد المردد) وقد اتفقوا على عدم صحة جريانه عدا ما نقل عن بعض الأجلة في حاشيته على كتاب البيع للشيخ الأعظم، إذ قال بما محصله: (بأن تردده بحسب علمنا لا يضر بيقين وجوده سابقا، والمفروض ان أثر القدر المشترك أثر لكل من ألفردين، فيمكن ترتيب ذلك الأثر باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا، كما في القسم الأول الذي حكم الشيخ فيه (هامش) () لم يذكر هذا التنبيه في الرسائل ولا في الكفاية. (*) ص 286 باستصحاب كل من الكلي وفرده). أقول: ويجب ان يعلم - قبل كل شيء - الضابط لكون المورد من باب استصحاب الكلي القسم الثاني أو من باب استصحاب ألفرد المردد، فان عدم التفرقة بين الموردين هو الموجب للاشتباه وتحكم تلك الشبهة. أذن ما الضابط لهما؟ ان الضابط في ذلك ان الأثر المراد ترتيبه أما أن يكون أثرا للكلي، أي أثر لذات الحصة من الكلي لا بما لها من التعين الخاص والخصوصية المفردة، أو أثرا للفرد، أي أثر للحصة بما لها من التعين الخاص والخصوصية المفردة. فان كان (الأول) فيكفي فيه استصحاب القدر المشترك أي ذات الحصة الموجودة أما في ضمن ألفرد المقطوع الارتفاع على تقدير انه هو الحادث أو ألفرد المقطوع البقاء على تقدير انه هو الحادث، ويكون ذلك من باب استصحاب الكلي القسم الثاني، وقد تقدم اننا لا نعني من استصحاب الكلي نفس الماهية الكلية بل استصحاب وجودها. وان كان (الثاني) فلا يكفي استصحاب القدر المشترك وانما الذي ينفع استصحاب ألفرد بما له من الخصوصية المفردة المفروض فيه انه مردد بين ألفرد المقطوع الارتفاع على تقدير انه الحادث أو ألفرد المقطوع البقاء على تقدير انه الحادث، ويكون ذلك من باب استصحاب ألفرد المردد. إذا عرفت هذا الضابط فالمثال الذي وقعت فيه الشبهة هو من النوع الثاني، لان الموضوع للنجاسة المستصحبة ليس أصل العباءة أو الطرف الكلي منها، بل نجاسة الطرف الخاص بما هو طرف خاص اما الاعلى أو الاسفل. وبعد هذا يبقى أن نتسأل: لماذا لا يصح جريان استصحاب ألفرد المردد؟ نقول: لقد اختلفت تعبيرات الاساتذة في وجهه، فقد قيل: لأنه لا يتوفر فيه الركن الثاني وهو الشك في البقاء، وقيل: بل لا يتوفر الركن الأول وهو اليقين بالحدوث فضلا عن الركن الثاني. أما الوجه الأول، فبيانه ان ألفرد بما له من الخصوصية مردد حسب ألفرض بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع، فلا شك في بقاء ألفرد الواقعي الذي كان معلوم الحدوث لأنه اما مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع. واما الوجه الثاني - وهو الأصح - فبيانه: ان اليقين بالحدوث اريد به اليقين بحدوث ألفرد مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة لأنها مجهولة حسب ص 287 ألفرض، فاليقين موجود ولكن المتيقن حينئذ هو الكلي الذي يصلح للانطباق على كل من ألفردين. وان أريد به اليقين بألفرد بماله من الخصوصية المفردة فواضح أنه غير حاصل فعلا لان المفروض ان الخصوصية المفردة مجهولة ومرددة بين خصوصيتين، فكيف تكون متيقنة في عين الحال، إذ المردد بما هو مردد لا معنى لان يكون معلوما متعينا، هذا خلف محال، وإنما المعلوم هو القدر المشترك. وفي الحقيقة ان كل علم إجمالي مؤلف من علم وجهل ومتعلق العلم هو القدر المشترك ومتعلق الجهل خصوصياته، وإلا فلا معنى للإجمال في العلم وهو عين اليقين وإلانكشاف. وانما سمي بالعلم الإجمالي لانضمام الجهل بالخصوصيات إلى العلم بالجامع. وعليه، فان ما هو متيقن - وهو الكلي - لا فائدة في استصحابه لغرض ترتيب أثر ألفرد بخصوصه، وماله الأثر المراد ترتبه عليه - وهو ألفرد بخصوصيته - غير متيقن بل هو مجهول مردد بين خصوصيتين، فلا يتحقق في استصحاب ألفرد المردد ركن اليقين بالحالة السابقة، لا أن ألفرد المردد متيقن ولكن لا شك في بقائه. والوجه الأصح هو الثاني كما ذكرنا. واما الوجه الأول - وهو انه لا شك في بقاء المتيقن - فغريب صدوره عن بعض أهل التحقيق، فان كونه مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع معناه في الحقيقة هو الشك فعلا في بقاء ألفرد الواقعي وارتفاعه، لان المفروض ان القطع بالبقاء والقطع بالارتفاع ليسا قطعين فعليين بل كل منهما قطع على تقدير مشكوك، والقطع على تقدير مشكوك ليس قطعا فعلا، بل هو عين الشك. وعلى كل حال، فلا معنى لاستصحاب ألفرد المردد، ولا معنى لان يقال - كما سبق عن بعض الأجلة -: (ان تردده بحسب علمنا لا يضر بيقين وجوده سابقا) فانه كيف يكون تردده بحسب علمنا لا يضر باليقين؟ وهل اليقين إلا العلم؟ إلا إذا أراد من اليقين بوجوده سابقا اليقين بالقدر المشترك والتردد في ألفرد، فاليقين متعلق بشيء والتردد بشيء آخر، فيتوفر ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى القدر المشترك لا بالنسبة إلى ألفرد المراد استصحابه، فما هو متيقن لا يراد استصحابه وما يراد استصحابه غير متيقن على ما سبق بيانه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق