الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

قاعدة نفي الحرج والعسر وتطبيقاتها


قاعدة نفي العسر والحرج
أدلة القاعدة
وهي قاعدة مشهورة ذكرها الفقهاء في (الأصول) و (الفقه).
وتدلّ عليه الأدلة الأربعة :
فمن الكتاب: قوله سبحانه: (ما جعل عليكم في الدين من حَرَج)(1).
وقوله تعالى: (ما يُريدُ الله ليجعل عليكم من حرج)(2).
وقوله سبحانه: (يُريد الله بكم اليُسر ولا يُريد بكم العُسْر)(3).
أما قوله سبحانه: (لا يُكلّف الله نفساً إلا وُسعها)(4) وقوله تعالى: (لا يكلّف الله نفساً إلا ما آتاها)(5) فدلالاتهما مبنية على أن المراد بـ (الوسع) و (ما آتى) العرفية لا الدقّية، إذ لو كان المراد الدقّية لكان مثل قولك: لا يكلف الله إلاّ الممكن، وهو خارج عن نطاق كلام البلغاء، فاللازم أن يراد بهما أيضاً ما ذكر في الآيات السابقة.
ومن الإجماع: تواتره في كلماتهم، حيث الإجماع العملي والقولي، إلاّ أنه ظاهر الاستناد لا محتمله فقط.
ومن العقل: قبح أن يوقع الحكيم عبيده في الحرج إلاّ لأمر أهمّ، والإستثناء قليل، وإنما الكلام في جعل التكليف مطلقاً كذلك، ولذا إذا رأينا سيداً أوقع عبده في المشقّة سألناه عن السبب، ولا نكتفي بجوابه إلاّ إذا ذكر الأمر الأهمّ.
والجهاد والصوم في الصيف وما أشبه من الإستثناء العقلي أيضاً، بالإضافة إلى الشرع، والأول للاستقلال والسيادة، والثاني للتذكير نفساً والتصحيح بدناً، فإذا لم يأمر المولى عبده بهما، لكان محلاً للتساؤل، ولذا يفعلهما العقلاء.
ومن السنة: متواتر الروايات مثل ما عن عبد الأعلى مولى آل سالم قال: قلت لأبي عبد الله (ع): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على أصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال (ع): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجل، قال الله عزّ وجل: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)(6).
إلى غيرها من الروايات المذكورة في (الوسائل) و (المستدرك) وغيرهما.
معنى العسر والحرج
والعسر والحرج إذا ذكرا معاً، كان الأول بَدنَياً والثاني نفسياً، وإن أفرد أحدهما عن الآخر شمل كلٌ الآخر.
فالفتاة في بيت أبيها إذا إحتملت وكان غسلها حرجاً شديداً عليها تبدّل حكمها إلى التيمّم.
وكذلك إذا تزوّجت متعة ـ حيث لا أب لها أو قلنا بكفاية رضاها، كما هو قول جمع من الفقهاء ـ.
أما الحرج الجسدي فهو الشدّة البدنية، كما ذكر الإمام (ع) مثالاً له في الرواية، وعطف عليه أشباهه، وذلك لا يلازم الضرر كالحرج، إذ بينهما عموم من وجه، فقد تصاب الفتاة المذكورة بالمرض أو العمى ـ مثلاً ـ إذا اغتسلت، وقد لا يكون إلاّ الشدّة النفسية، كما أن العسر قد يؤدي إلى الضرر، كما إذا مرض بسبب المسح على البشرة، وقد لا يؤدي إلى ذلك.
وعلى هذا فهي عناوين ثلاثة ثانوية حاكمة على الأدلة الأولية، فالقول بالفرق بين الحرج والضرر في الحكومة غير ظاهر الوجه.
ومما تقدّم ظهر أنّ قوله سبحانه: (ما لا طاقة لنا به)(7) لا يُراد به المحال، إذ ما ليس فيه قدرة على الطرفين لا يعقل التكليف به فهو مثل أن يقال: لا تكلّفني التناقض، فالمراد به ما هو غاية طاقتنا الممكنة، ومنه قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه)(8).
ولا ينافي ما ذكرناه قوله سبحانه: (لا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قَبْلِنا)(9) حتى يقال: إنه إذا كان خلاف العقل كيف كلّف سبحانه بذلك بعض الأمم، إذ هو مما ذكرناه من الإستثناء، حيث إن التحميل عليهم كان كالجهاد علينا لطفاً عقلاً، فإن الصبي إذا لم يؤدّب فهو خلاف الحكمة، وتلك الأمم كانت في بداية المسيرة الحضارية كما يظهر من إشكالاتهم لموسى (ع) وغيره.
أما ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ بني إسرائيل كانوا يقرضون لحومهم إذا أصابها البول، فالمراد به القرص لأنهم كانوا في مصر وابتلوا بمرض (البلهارزيا) مما لا يدفع جرثومته إلاّ بالقرص الشديد، وفي العرف يطلق القرض على القرص.
وحيث إن الأدلة مطلقة فلا فرق في الحكم المرفوع أن يكون وضعياً أو تكليفياً إذا لم نَقُل بأن الوضع ليس أكثر من التكليف انتزاعاً كما ذكره الشيخ (قدس سره) وغيره.
الأحكام ميسورة
ويظهر من الآيات والروايات ان الأحكام ليست معسورة فقط، وإنما ميسورة أيضاً كما قال سبحانه: (يُريدُ الله بكم اليُسْرَ ولا يريد بكم العُسْرَ)(10) أي أن الــمنفي ليس العسر فقط، بل فوقه: إرادة اليسر لوضوح أن بينهما واسطة، ولذا ورد عنه (ص): (بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة السهلة)(11).
وعلى هذا فالأحكام المجعولة من الشارع كلها سهلة يسيرة.
وفي رواية عن الإمام (ع): ان شيعتنا في أوسع مما بين ذه وذه وأشار إلى السماء والأرض)(12).
والمراد :
إما في مقابل الخوارج، حيث ورد عن الباقر (ع) في صحيحة البزنطي: (إن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، وانّ الدين أوسع من ذلك)(13) حيث إنهم كانوا يكفّرون كلّ عاص، وهذا أشدّ أنحاء الضيق.
وإما أنه من مفهوم اللّقب، حيث إن المسلمين كلهم كذلك.
وإما أنه في قبال سائر المذاهب، حيث تكثر فيها الأحكام المشدّدة فيها مثل: استياك المقعد بالحجر ونحوه.
لا يقال: ما ذكرتم من رفع الوضع غير تام، لأن الحرج لا يوجب رفع النجاسة أو ما أشبه.
لأنه يقال: الوضع الموجب للحرج جعل الشارع له المخرج مادام الحرج، مثلاً: يحق للمرأة التي هي في حرج من زوجها مراجعة الحاكم الشرعي، ويطلقها الحاكم إن لم يرضخ الزوج لـ (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)(14).
واجتناب النجاسة مادام حرجاً يجوز استعمالها، فإذا ارتفع الحرج يلزم ترتيب آثارها.
وإذا كان عدم نظر الطبيب إليها لعلاجها يوجب الحرج الشديد مثلاً، جاز النظر واللّمس، إلى غيرها من الأمثلة.
ثم الحرج كما هو مخصّص للأحكام الأولية كذلك مخصّص بما هو أهم لقاعدته، كما ان الضرر كذلك، فإذا بلغت الغريزة الجنسية ـ في إنسان ـ حدّ الحرج، ولا يزول الحرج إلاّ بالجماع مع امرأة ذات بعل لم يكن حرجه مبيحاً له، ذلك لأن حرمة ذات البعل أهمّ من الحرج.
والمشهور بين الفقهاء: انه علة وليست بحكمة، فلو كان كل الناس من الحكم الفلاني في حرج دون زيد لم يرفعه حكمه.
نعم قد يرفع الشارع الحكم حكمة، فيرتفع حتى عمن لا حرج عليه كما أشار إليه (ص) بقوله: (لو لا أن أشقّ على أمتّي لأمرتهم بالسواك)(15).
والحرج كالضرر في أن خوفه المستقبلي ـ شخصاً أو أحد الأشخاص ـ يوجب رفع الحكم، فكما إذا خاف الضرر في المستقبل ارتفع الحكم.
وكما إذا علم بضرر أحد شخصين، علماً أو خوفاً، يرتفع الحكم عنهما، كذلك حال خوف الحرج المستقبلي، كما إذا خاف إن فعل كذا أن يقع في حرج رافع للحكم في المستقبل، أو خيف وقوع أحدهما في مثل ذلك.
نعم لا معنى لاحتمال الحرج الحالي، لأنه نفسي يوجد أولا يوجد،بينما الضرر الحالي محتمل فهو رافع دون الحرج كذلك، لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع.
___________________________________________
تكملة........
من القواعد المشهورة التي تواتر العمل بها من قبل الفقهاء في مختلف أبواب الفقه قاعدة (العسر والحرج) بل ذكروها أيضاً في الأصول. وفي العوائد «قد شاع وذاع بين الفقهاء استدلالهم بنفي الحرج والعسر والمشقة» ([1]) والمستفاد فيها نفي كل حكم شرعي يستلزم ثبوته الحرج على المكلف فوجوب الوضوء أو الغسل أو حرمة رؤية الرجل للمرأة إذا كان طبيباً ونحو ذلك إذا استلزم الحرج على المكلف.. فأنّه يكون مرفوعاً والذي يبدو من كلمات الأعلام أنّهم متفقون على فعال القاعدة وفي معنى العسر والحرج لاتفاقهم على الأدلة الواردة بلا اختلاف في معانيها.
ومن هنا يظهر أنّ هذه القاعدة تشمل كل أبواب الفقه.. ويتراءى من عمل الفقهاء في أبواب العبادات ونحوها تمسكهم بهذه القاعدة ولكن القليل منهم تطرق لها بعنوان مستقل سوى ما وجدناه عند النراقي قدس سره في العوائد والمراغي قدس سره في العناوين والسيدان البجنوردي قدس سره والشيرازي قدس سره في القواعد الفقهية.
هذه الجهة جعلت البعض يتصور عدم وجود الدليل عليها فأنكرها رغم أنّ رفع التكاليف الحرجية في الفقه كالشمس في رابعة النهار والبحث فيها في جهات:
الأولى: في مداركها وأدلتها.
الثانية: في مفادها ونسبتها مع سائر الأدلة والقواعد.
الثالثة:   تنبيهاتها..
وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدم مقدمات:
الأولى: ورد في صحيحة زرارة رضي الله عنه بيان معنى الحرج ففي تفسير قوله سبحانه: â مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍá ([2]).
قال: الحرج: الضيق([3]).
وفي مفردات الراغب، الحرج: الضيق قال تعالى: âثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماًá ([4]) ، والتسليم مقابل الضيق.
وقال تعالى: âيَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًá ([5]) أي ضيق بالإسلام ([6]) وقريب منه في الصحاح ([7])  والقاموس([8]) والنهاية([9]) وفي المفردات أيضاً وفي المجمع « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » ([10]) أي ما ضيق بأن يكلفكم مالا طاقة لكم به وما تعجزون عنه ([11]).
 أنّ العسر: نقيض اليسر([12])  والأشياء تعرف بأضدادها فلا يقال هذا تعريف بالضد لأنّ الغرض الاطلاع لا بيان الحد التام، أو المفهوم المطابقي التام لأنّ من أغراض الفقيه الوصول إلى الفهم العرفي في حدود الموضوعات والأحكام وظواهر الألفاظ ونحو ذلك..
والعرف يفهم من العسر ما يناقض اليسر وحيث أنه يكفي حدود الموضوع لا حاجة إلى بيان التفصيل والنقض والإبرام.
وفي النهاية مسره بالضيق والشك والصعوبة وفي المجمع قريب منه([13])  وفي الفوائد: أنّ العسر يصدق عرفًا على كل صعب وشديد ولا يصدق الضيق إلا على ما كان في عناية الصعوبة والشدة ولم يثبت من اللغة خلاف ذلك([14]).
 الثانية: إن العسر والحرج حقيقة تشكيكية لها مراتب ولعل من مراتبها:
1ـ العسر والحرج الذي لا يطيق المكلّف ولا يتحمله.
2ـ ما يطيقه المكلّف ولكن تحمله يوجب اختلال النظام.
3ـ مالا يوجب شيئاً من عدم الطاقة أو اختلال النظام بل فيه مشقة وضيق عليه.
4ـ ما هو أقل من ذلك.
وقد عدَّ البعض الضرر في الأموال أو الأنفس أو الأعراض من أقسام العسر والحرج والظاهر أنه ليس من حقيقته بل من علله وأسبابه فتأمل([15]).
ومعلوم أن الشارع في تشريعاته الحكمية لا يكلف العباد بما لا يطيقون ولا يقدرون عليه لأنه يستلزم القبح.. ويستلزم نقض التكليف لأنه للطاعة والإمتثال ومع عدم القدرة لا طاعة.
وفي الأخبار ما يدل على ذلك منها: قوله تعالى في رواية الاحتجاج([16]):«وذلك حكمي في جميع الأمم أن لا أكلف خلقاً فوق طاقتهم».
ومنها صحيحة هشام: «الله أكرم من أن يكلف الناس مالا يطيقون»([17]) الدالة مفهوماً على أن مالا يطيقونه ولا تكليف فيه.
ومنها: الرواية النبوية الواردة في التسعة المرفوعة عن هذه الأمة ومنها «مالا يطيقون»([18]).
كما أن الشارع لا يريد أن يكلفهم بما يخل بنظام معاشهم ولا معادهم لأنه نقض للغرض من التشريع وهذا في الغالب ما يطاق ولكن بمشقة وعسر، إذ أن من أغراض التشريع تنظيم أمور العباد في الدين والدنيا فلا يصح ن يشرع لهم ما يخل بهذا النظام.
نعم أما القسم الثالث فهو الذي وقع فيه البحث بعد العلم بأن القسم الرابع منه لا يرفع الحكم الشرعي لان العسر والحرج القليل هذا من لوازم التكليف وإلا لارتفع التكليف ولزمه من وجوده عدم وهو محال إذ ما من تكليف إلا وفيه مشقة وعسر بل من معاني التكليف لغة الكلفة والمشقة.
فتحصل مما تقدم:
عدم الإشكال في جواز التكليف بما دون العسر والحرج بل وقوعه. وعدم الإشكال في قبح التكليف بما هو فوق القدرة وإنما الكلام في الواسطة بينهما بمعنى كونه مما يطاق إلا أنّه فوق اليسر والسهولة (أي فيه العسر والحرج) فهل وقع التكليف فيه أم هو مرفوع؟
على فرض صحته والفرق أما على الأول فأنّ القاعدة مما تقبل التخصيص وأما على الثاني فأنها مما تأبى ذلك فتدبر.
إن قلت إن قوانين الكون على نمط واحد من الحكمة في الدنيا والآخرة بل أنّ القاعدة العقلية مما لا تقبل التخصيص في الدنيا أو الآخرة..
وحيث ثبت عقلاً أنّ التكليف بالمحال محال، فكيف يكلف الله سبحانه بعض العباد بالمحالات في يوم الحساب؟
وذلك كما ورد في الكافي عن مولانا الصادق عليه السلام:
«ثلاثة معذبون يوم القيامة: رجل كذب في رؤياه يكلف إن يعقد بين شعيرتين....»([19]) الحديث  .
وكذا ما ورد في إحياء الصورة والتمثال لمن يصنعهما في الدنيا ويؤمر بنفخ الروح فيهما([20]) وغير ذلك من الأخبار.
قلت: إنا نسلم الكبرى إلا أنها لصغرى فحدوثه لأن ما ذكر ليس في التكليف بالمحال حقيقة بل صورة لإظهار عجز هؤلاء وضعفهم أمام قدرة الله سبحانه وإرادته فهي من قبيل قوله سبحانه: â قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراًá([21]) مع إنهم لا نور لهم.. فتدبر.
أدلة القاعدة..
أولا: الكتاب.. واستدلوا به بآيات:
منها قوله تعالى: â وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَá([22]).
كما تمسك بها جملة من الأعلام كالمعتمد والمختلف والإيضاح والمدارك وحاشية الروضة وكشف اللثام وغيرهم.
وهي من أقوى الأدلة واستندت إليها الكثير من الأخبار لنفي التكاليف الحرجية تارة بعنوان الحكمة أي أنما حكمه رفع التكليف هو العسر والحرج ومرة بعنوان العلة. وإذا تم ذلك تهتم دلالتها على المطلوب وقد إختار أكثر المفسرين أن المراد من المجاهرة في امتثال الواجبات وترك المحرمات (وحَقَّ جِهَادِهِ) يراد منه أما الإخلاص في العبادات والمجاهدات كما نسب للأكثر أو الاطاعة الخالية من شائبة العصيان كما يحكي عن البعض وربما يرجعان إلى معنى واحد وهو المجاهدة البالغة حد الكمال وكأن الآية تريد أن تحث المسلمين إلى الطاعة والمجاهدة في امتثال أوامر الله تعالى وتسقط عنهم العذر في العصيان بعد أن جعل الله سبحانه الدين سهلاً سمحاً قابلاً للتدين والالتزام إذ لا توجد أحكام عسيرة وحرجية على العباد في الدين.
وفضل المسلمين على الأمم واجتباهم لهذه السماحة والسهولة.. ولعلنا نستفيد أن الآية في مقام المنّة على العباد بـ:
1ـ الإجتباء للسهولة واليسر.
2ـ رفع التكاليف الحرجية عنهم. ومنها قوله تعالى âوَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá([23]).
والذي يظهر من مضمون الآية بعد نفي وجوب الصيام عن طائفتين هم المرضى والمسافرون عقبه بقوله تعالى âيُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá، وكأنه منزلة العلة لرفع الحكم فيكون قاعدة كلية يستفاد منها في رفع الأحكام التي تسبب العسر والحرج.
ان قلت: أن الآية في الصيام.
قلت: المورد لا يخصص الوارد خصوصاً أذا إستفدنا العلية والعلة تعمم المورد..
ولا يقال: أن التكليف بغير المقدور إذا كان خلاف العقل والحكمة كيف كلف الله سبحانه بذلك الأمم السابقة كما هو صريح الآية..
فأنه يقال: أن المراد منه ما كان فيه غاية الجهد والطاقة لا الأكثر.. ومن الواضح أن الأول يجوز التكليف به إلا أنه سبحانه رفعه عن أمة الإسلام امتنانًا ولطفاً ورحمة.
والثاني هو المحال.
ولا يخفى أن تحميل ما فيه غاية الطاقة على السابقين من الأمم كان لطفاً بهم عقلاً كتكليفنا بالجهاد ونحوه.
فإن ما تقتضيه الحكمة من التكاليف واجبة عقلاً وتلك الأمم حيث كانت في بداية المسيرة الحضارية كما يظهر من أساليب تعاملهم مع أنبيائهم وإشكالاتهم.. كما يظهر جلياً في مثل قصة موسى عليه السلام اقتضت الحكمة تكليفهم بما فيه نوعاً من العسر تأديبا لهم وتهذيباً وتكميلاً كما أن الصبي يضرب تأذيباً وتهذيباً وإذا لم يؤدب يكونه خلاف الحكمة.
وبهذا يظهر أن ما ورد في بعض الأخبار من أن بني إسرائيل كانوا يقرضون لحومهم إذا أصابهم البول محمول على أحد وجهين:
الأول: أنه كان في وسعهم وطاقتهم ألا أنه يكلفهم غاية الطاقة لقوة أبدانهم وشدة بأسهم كما يؤيده قوله سبحانه: (كانوا أكثر منكم قوه).
الثاني: ما احتمله سماحة السيد قدس سره من أن المراد من القرض لأنهم كانوا في مصر وابتلوا بمرض البلهارزيا مما لا يدفع جرثومته إلا بالقرص الشديد وفي العرف يطلق القرض على القرص ([24]). وإن كان الأول اظهر للنظر.
ومنها: أثبات الأولى من قوله سبحانه وتعالى: âلاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ([25])á ([26]).
والثانية: قوله تعالى âَلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَاá([27]).
والفرق أن الأولى ناظرة إلى جهة الفاعل أما الثانية فناظرة إلى جهة القابل كما لا يخفى.
والسعة تطلق على معنيين:
احدهما: الجدة والطاقة.
ثانيهما: خلاف الضيق.
قال الجوهري: «الوسع والسعة الجدة والطاقة» وقال أيضاً: «والتوسيع خلاف التضييق» والآية الأولى نص من الله سبحانه لا يكلف نفساً إلا بمقدار طاقتها ووسعها وليس بأكثر وحيث أن الوسع ضد الضيق أذن لا يكلف بما يسبب ضيقاً للنفس وعسراً..
ومنه يظهر المعنى في الآية الثانية أيضاً.
ولا يخفى أنّ هذا الاستدلال مبتنى على أنّ المراد من (وسعها) و(ما أتاها) بالمقدار العرفي التسامحي لا الدقي الفلسفي فمضافاً إلى أن أدلة الشارع منصبة إلى العرض وما تعارض عليه يلزم منا الدقة العقلية عدم القدرة على الامتثال مضافاً إلى نقض الفرض بل والتناقض فإن رفع الحرج وارد في مقام ومن المتعسر أخد المحاسبات الدقية في تكاليفه لأنّه عسرة ومشقة مخالفة للامتنان ويلزم من وجوده عدمه فتأمل.
ومن الآيات قوله تعالى âرَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَاá([28]).
ووجه الاستدلال: أنّ الأصر في اللغة هو الثقل الشديد الذي يحبس صاحبه ([29]).
فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سأل ربه ليلة المعراج أموراً حكاها سبحانه في هذه الآية الشريفة وكان منها رفع الأصر عن أمته والله سبحانه وتعالى كرامة له ولأمته استجاب دعوته فرفع ذلك عنهم ويشهد لهذا الرفع نقله سبحانه للقضية في القرآن الكريم إذ لو لم يستجب دعوته لم ينقلها في القرآن ويتمنن على الأمة.
ولا يخفى أن وجه حمل الأصر على الأمم السابقة هو إنهم كانوا يستحقونه لمخالفتهم لا أوامر الشرع والعقل وقتلهم الأنبياء بغير حق كما قال سبحانه âضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّá([30]). لذا ما كانوا يستحقون الامتنان في رفع الأصر عنهم وحينئذ يكون تحميلهم الأصر من قبيل الحدود والتعزيرات والسجن حيث إنها آصار لكن باستحقاق المجرم فيجب عليه أن يتحملها عقلاً وشرعاً وعرفاً نكالاً به واجتثاثا للفساد.
وبذلك تظهر دلالة الآية على نفس التكاليف الحرجية التي فيها نقل عن هذه الأمة امتناناً عليها لأنّها الأمة المرحومة ببركة رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
ويؤيد ذلك أن الروايات وردت في تفسير الآية بهذا المعنى. وفي ظاهر الآية وأشباهها والذي قامت عليه الأخبار يظهر.. أن الأحكام الشرعية ليست أنّها غير معسورة فقط بل هي ميسورة ودون طاقة الإنسان ووسعه فأن المنفي في الآية ليس العسر وحده بل إرادة العسر أيضاً منفية والذي وقع متعلقاً للإرادة هو اليسر ومن الواضح أن العسر واليسر ليس ضدين لا ثالث لهما بل بينها واسطة.. ويؤيد هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة»([31]).
ولعل من هنا رفع الفقهاء وما فيه المشقة أو حمل بعض ما ظاهرة الوجوب على الندب ونحوه.
معللين ذلك بمصالح التسهيل على المكلفين لما ثبت عنهم من أنّ الأحكام المجهولة من الشارع كلها سهلة يسيرة..
وفي الخبر عن الإمام عليه السلام: «إنّ ولينا لفي أوسع مما بين ذِه إلى ذِه - يعني بين السماء والأرض – ثم تلا هذه الآية: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا»([32]).
ولعل المراد منها يحتمل وجوهاً:
أحدهما: في مقابل الخوارج حيث أنهم ضيقوا على أنفسهم بحمل الناس على الكفر كما ورد عن الباقر عليه السلام في صحيحة البيزنطي:«أنهّم ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم وإنّ الدِّين أوسع من ذلك»([33]) لأنهم كانوا يكفرون كل عاصٍ ومن الواضح أنّ هذا النوع من التفكير أو التعامل مع الناس من أشد أنحاء الضيق.
ثانيها: أنّه من مفهوم اللقب حيث أن المسلمين كلهم كذلك ولا خصوصية للشيعة وحينئذ تكون دلالتها على المقلوب ظاهرة.
ثالثها: إنها في قبال سائر المذاهب حيث تكثر فيها الأحكام المتشددة مثل استياك المعقد بالحجر وبطلان الوضوء بمس بدن المرأة أو كفها - عند بعضهم - ونحو ذلك:
وكيف كان.. فدلالة الآيات والأخبار على كون الأحكام الشرعية سهلة يسيرة مما لا يخفى على المتبع بل ويساعده الوجدان خصوصاً عند من خشع قلبه لذكر الله سبحانه. وسنأتي إلى مزيد تفصيل لذلك إنشاء الله تعالى فأنتظر.
وبذلك يظهر أيضاً أن المراد من قوله سبحانه âلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِá([34]) ليس من المحال أو الخارج عن حدود الطاقة لان عدم التكليف به من البديهيات في الحكمة إ أن ما ليس فيه قدرة على طرفي الوجود والعدم ولا يعقل التكليف به فهل يصح أن يقال في مقام التخاطب مع العاجز المشلول أمشِ أو أركض.
والظاهر أن المراد من الآية ما هو غاية الطاقة الممكنة ولعل من هنا عبر سبحانه عن غير القادرين عن الصيام âوَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُá([35]) أي يكلفهم الصيام غاية في الطاقة والجهد.
أما أدلة السنة..
ففيها أخبار كثيرة ظاهرة في مؤدى القاعدة نذكر منها بعض ما ورد([36]):
1/ ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: «أنا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟
فقال: أن عرض في قلبك شيء - أي شك وشبهة - فقل هكذا:
«يعني أخرج الماء بيدك ثم توضأ»..
فإنّ الدين ليس بمضيق فإن الله تعالى يقول: â وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ á.
والذي يظهر من الرواية إنها تريد تبيين الحكمة ([37]) في عدم انفعال ماء الكرّ بالملاقاة لأنّه إذا كان دون الكرّ ينجس قطعاً.
وهي التوسعة على الأمة ورفع الضيق والحرج.
ومعلوم أنّ الغدير الذي هو مورد السؤال في الغالب هو كرّ. ومن هذه الحكمة نستفيد أن كل حكم كان فيه عسر وحرج ويسبب ضيقاً على الناس فهو مرفوع عنهم ولعل مما يؤكد هذا استدلال الإمام عليه بقوله تعالى âمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍá.
إن قلت: أن عدم انفعال الكرّ سببه القاعدة المذكورة هذا حكمة وليس بعلة فكيف تعممها لغيره.
قلت: لا مانع من كون الحكمة تكون حكمة للكرّ وتكون علة لغيره كسائر الأحكام راجع مباحث قاعدة لا ضرر لمكارم.
2/ما رواه شيخ الطائفة بإسناده إلى عبدا الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على أصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟
قال عليه السلام: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال تعالى: : â وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ([38]) á امسح عليه ([39]) وذيل الرواية من أظهر الدلالات على المطلوب فأن الإمام قال: (يعرف هذا وأشباهه) أي أعطى العمومية.
فأنّه إذا كان في الرواية السابقة احتمال الحكمة في رفع الحكم فأن هنا لا شبهة في الظهور في العلية والعلة يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً كما يجوز التعدي في موردها إلى غيره لأن العلة تعمم وتخصص.. وقد روي الطبري عن أبن عباس من تفسر الآية (ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق هو واسع) وقد نسب مجمع البيان هذا المعنى إلى جميع المفسرين.
إن قلت: أن نفي الحرج مقتضاه أن ينفي وجوب الوضوء عليه ولكنه رفع وجوب المسح المباشر على الروقة؟
أولاً: يمكن الجواب.
قلت: بما ذكره الشيخ وحاصله:
أن المسح الواجب في الوضوء يشتمل على أمرين:
1/ إمرار اليد على المحل.
2ـ مباشرة اليد للبشرة.
فإذا تعسر أحدهما يرفع ويبقى الثاني في محله... والذي تعسر هنا مباشرة اليد للبشرة لا إمرار اليد على المحل فسقوط الثاني للحرج لا يوجب سقوط الوظيفة الأولى ([40]).
وأشكلوا عليه: بأن انحلال وجوب الوضوء إلى أمرين مما لا يساعده الفهم العرفي من الدليل لان إمرار اليد ليس بمطلوب في نفسه مراعاً من باب المقدمة لحصول المسح على البشرة فوجوبه من هذه الجهة يكون من باب المقدمة ومن المعلوم أن وجوب المقدمة يسقط لو سقط وجوب ذيها.
وربما يشهد له ما ورد في باب حرمة المسح على الخفين وذم القائلين به من قوله عليه السلام إذا كان يوم القيامة وردّ الله تعالى كل شيء: إلى شيئه وردّ الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوئهم ([41]).
مما يبدو أن المسح على الخفين كالعدم لا أنه جزء وظيفة المسح ولكن قد يقال بأن الخف قياسة على القدم محل نظر إلا إذا فهمنا الملاك.
ثانيا: قد نقول صحيح ما ذكرتم ألا أنّ قاعدة الميسور تخصص قاعدة الحرج هنا وتتقدم عليها، فأنّ الآية الشريفة تنفي وجوب المسح ألا أنّ قاعدة الميسور تثبت بدلية المسح على المرارة  لأنه مقتضى الجمع بين رفع الجرح وأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور وقاعدة الميسور مركوزة في الأذهان وعليه سيرة العقلاء وربما يؤيده قوله عليه السلام «إذا أمرتكم بشيء فآتوا به ما استطعتم»([42]).
فإذا كان المسح المباشر متعسراً فإن المسح على الجبيرة ميسور وهو مما استطعتم لذا لا يسقط.
إن قلت: أن الرواية ضعيفة سنداً بعبدالأعلى مولى آل سام صحيح أنه في كتب الرجال كان إمامياً ممدوحاً ألا أن وثاقته لم تثبت.
قلت: أنّ هذا مرفوع بكفاية مثل (إبن محبوب) ووجوده في سلسلة السند وابن محبوب من أصحاب الإجماع والمشهور تصحيح ما يصح عنهم وإن نوقش في ذلك.. هذا مضافاً إلى شهرتها الجابرة.
3/ ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال: سألته عن رجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلي فيها؟ قال: نعم.
ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول:
«أنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم أنّ الدين أوسع من ذلك»([43]). دلت على أنّ الحكمة في حلية ما يشتري من سوق المسلمين هي توسعة على الأمة ورفع الضيق عنها..
ومعلوم أنّ قوله عليه السلام: «أنّ الدين أوسع من ذلك»، «أنّ الخوارج ضيقوا.. بجهالتهم» على عمومية السعة في كل الأحكام وأنّ التضييق من الجهالة كما أنّ الرواية وأن لم تذكر الحرج بالنص ألا أنّ معناه ومضمونه موجود.
وهذه الأخبار وفي المجلد الأول الباب الأول من مقدمة العبادات من الوسائل روايات عديدة مشعرة بذلك، كما أن الروايات عديدة ذكرنا بعضها هنا.
4/ وفي رواية حمزة بن طيار عن الصادق عليه السلام:
«وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون وكل شيء لا يسعون فهو موضوع عنهم»([44]).
مما تنفي مالا يطيقه الناس من الأحكام.
نعم لقائل أن يقول: أنها لا تدل على المطلوب بل تدل على نفي التكليف بغير المقدور وهذا أمر مرفوع عقلاً لا شرعاً لمحالتيه. وبذا تخرج عن محل الكلام.
ومن الأخبار ما تمسك به في المختلف وجامع المقاصد والنضيرة وحاشية الروضة وغيرها من النبوي الوارد في قضية عذق سمرة بن جندب والأنصاري قد: «لا ضرر ولا ضرار»([45]).
وأيضاً ما تمسك به في المختلف وصاحب الحدائق من النبوي «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة»([46]).
وأما دليل العقل..
الأول: ما ذكره سماحة السيد قد في القواعد([47]) وحاصله على ما يبدو لنا من كلامه قد.
قبح أن يوقع الحكيم عبيده في الحرج إلا لأمر أهم والاستثناء قليل لذا إذا رأينا سيداً أوقع عبده في المشقة سألناه عن السبب ولا نكتفي بجوابه إلا إذا ذكر الأمر الأهم.
وفي معرض الإشكال على ما ذكر بالتكاليف الصادرة بشأن الجهاد والصيام في الصيف وما أشبه.
أجاب: بأن ذلك من الاستثناء الذي ذكر سوى أن هنا الاستثناء ليس شرعياً فقط بل هو يقتضي أيضاً والجهاد للاستقلال والسيادة والثاني للتذكير والتقوى نفساً والتصحيح بدناً وحينئذ فإذا لم يأمر المولى عبده بهما لكان محلاً للتساؤل ولذا يفعلهما العقلاء.
الثاني: ما ذكره المراغي في العناوين من قانون اللطف وحاصله:
أن المتفق عليه عند أصحابنا وجوب اللطف عليه سبحانه ومعنى اللطف: التقريب من الطاعة والابتعاد عن المعصية التي هي المهلكة العظمى.
ولا ريب أن التكليف البالغ حد الحرج يبّعد عن الطاعة ويكون باعثاً إلى كثرة المخالفة والله سبحانه أرحم بعباده من أن يفتنهم بما يوقعهم في العذاب غالباً وكما أن التكليف بما لا يطاق ممتنع عليه تعالى للزوم القبح والخروج عن العدل فكذلك التكليف بالحرج فأنه مناف والرحمة([48]).
وربما يشكل عليه كما في العوائد وحاصله:
بأن قد يترتب على أمر صعب وضيق سهولة وسعة كثيرة دائمة أعلى وأرفع من هذا الصعب ومقتضى اللطف التكليف بالصعب الأدنى للوصول إلى السعة الأعلى كما أنّ الأب الرؤوف يضيق على ولده بحبسه في ا لمكتب ومنعه من الأغذية المرغوبة له لراحته عند الكبر بحجمه ويقطع أعضاءه لدفع الأمراض ([49]).
مضافاً إلى لزوم تحديد مراده من اللطف والرحمة فإن كان الامتنان فستعرف أن مقتضى ظاهر القاعدة وموردها..
وإن كان مراده أنه دليل يرأسه فأن اللطف ما لم يلزم من عدمه القبح لم يدل الدليل على وجوبه فتأمل.
الثالث: ما تمسك به المحقق في المعتبر والبهائي في الحبل المتين وجمال الدين الخونساري في حاشيته الروضة من قولهم كما في الفقه([50]):
«بأن رفع الضرر المظنون واجب عقلاً» مع تتمة أن الحرج والضرر في ساق واحد فتأمل.
وربما يمكن أن يقال أيضاً دليلاً أو مؤيداً بأن العقلاء يقبحون السيد الذي يكلف عبده بالتكاليف الشاقة التي ستسبب له العسر والحرج ويلومونه على ذلك، ولولا عدم جواز ذلك عقلاً لما صح التقبيح أو اللوم.
ولعل ما في جامع المقاصد من قوله بأن التكليف يقبح حينئذ([51])، وأيضا ما في مجمع الفائدة من أن الضيق منفي عقلا ([52]) يشير إلى هذا الوجه فتأمل.
والظاهر أنه يمكن أن نقول بأنّ هناك قدراً مسلَّماً من الحرج مرفوع وهو التكليف بغير المقدور لأنه قبيح والقبيح محال على الحكم بل أنّ التكليف بغير المقدور ليس فقط قبيحاً عقلاً بل ممتنعاً عقلاً وذلك لأن حقيقة الأمر والنهي هو البعث إلى أحد طرفي المقدور أو الزجر عنه فالتكليف بما لا يطاق بهذا المعنى ممتنعاً وليس ممكناً وليس ممكن ولكنه قبيح.
نعم نقول بأنّ العامة من الأشاعرة وهم أكثرهم اليوم الذين استندوا إلى نكران الحسن والقبح العقليين يقولون بشمول القاعدة لموردها إذ ليس من القبيح أن يكلف الله بغير المقدور.
نعم قد لا يكلف للزوم الحرج.
ولكن بحث المسألة تفصيلاً ومناقشاتها في علم الكلام وليس في كتب الأصول.
نعم العقل لا يمنع من تكليف الإنسان بتكاليف هي شاقة عليه ولكن مقدوره إليه خاصة وقد وقع التكليف بها في الأمم السابقة كما يشير إليه قوله تعالى: âرَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَاá ([53]).
ألا أنّ المولى جل جلاله في مقام المنّة على العباد والفضل رفعَ عنهم هذا النوع من التكليف وظاهر أدلة نفي الحرج في الآيات والروايات تؤكد أنه سبحانه في مقام الامتنان على الأمة لذلك وضع عنهم التكليف الذي لا يمنع العقل في التكليف به.
ويشهد لذلك ما ورد عن رسول الله صل الله عليه وآله وسلم :
«بعثت بالحنيفية السمحاء» ([54])، ونحوها قوله تعالى: « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » فإنها تؤكد أن التكاليف الشاقة التي وضعها على العباد ورفعها عنا وعصم المسلمين منها وأنزل في شأنهم â وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْá.
إذن من خلال ما تقدم نفهم: أن العقل لا يمانع إذا أراد الله أن يكلفنا بما هو مشقة علينا ألا أن الله تعالى رغم ذلك رفعها منّه وتفضلاً وكرامة لنا.
ومعلوم في جواب العامة لو أراد الله تعالى أن يضع عنا التكليفات غير المقدورة لا يكون من مقتضى المنّة لأنه من أول الأمر غير مقدور فلا مجال للامتنان.
والمحقق النراقي قدس سره في عوائد الأيام بيَّن دليل العقل بوجه آخر مفاده أن التكليف بما فيه العسر والحرج قال: «لا قبح فيه إذا كان بإزائه عوض وأجر أو دفع مضرّة ونقصان ولذا ترى العقلاء يحملون أولادهم وعبيدهم مشاقاً كثيرة فيحجمونهم ويأمرونهم بشرب الأشربة الكريهة بل قد يقطعون أعضائهم ولو كان تحميل كلما كان فيه مشقة قبيحاً لبطل كثير من التكاليف لاشتمالها على المشقة بل معنى التكليف حمل ما فيه كلفة ومشقة»([55]) والظاهر أن دليله هذا، صحيح من حيث المجموع إلا أن لنا فيه ملاحظات:
  1/ لأننا قدمنا أن الحرج مراتب ثلاث.. وليس التكليف يغير المقدور ممتنعاً بل حتى ما أدى إلى اختلال النظام والظاهر أن لقرينه يشمل الثاني.
2/ أن ذكر التكليف ليس قبيح إذا كان بإزائه عوض وأجر ولكن قلنا أن التكليف حتى لو كان فيه نفع وأجر ولكن إذا أدى إلى اختلال النظام أيضا ممتنع.. لنقض الفرض.
3/ ما ذكره من التمثيل بأعمال العقلاء فالظاهر أنه خارج عن مورد البحث لأن مورد البحث في رفع الحرج امتنانًا على العباد من مقام الرحمة والعطف والتسهيل وليس رفعه من باب الأهم والمهم وتعارض المصالح وما ذكره من أمثال فأنه داخل في باب التزاحم وواضح بأنه عند تعارض المصالح الإنسان يتحمل المشاق والصعوبّات في سبيل الأهم وليس هذا مننّه وفضل وتقدم أنّها منّة وفضل فتأمل. لامكان أن يقول أحد بأن المؤدى واحد وغرضه من التشبيه تقريب الفكرة.
وأما الإجماع فقد قرره النراقي قدس سره في العوائد بأنه مخصوص بما لا يمكن تحملّه من التكاليف وأما ما أمكن ولو بالمشقة الشديدة فلم يثبت إجماع على نفيه بعمومه وإن وقع الإجماع في بعض المواقع الخاصة([56]).
 ولا يقال: بعدم التسليم لان جمعاً من أعيان الأصحاب كالسيد والشيخ (قدهما) وغيرهما اختاروا في الفقه مذاهب مستلزمة للعسر والحرج كما لا يخفى على من راجع كتبهم لأنه قال: إن ذلك لو سّلم فهو مبتن على التخصيص للأدلة الخاصة في مواردها ومن الواضح أن التخصيص لا يخدش في القاعدة وإلا لأمكن الإشكال على الكثير من القواعد والعمومات فتأمل. وفي القواعد للشيرازي قدس سره أنه متواتر في كلماتهم حيث الإجماع العملي والقولي إلا أنه أشكل عليه إنه ظاهر الاستناد لا محتمله فقط ([57]).
أقول: وجه الاستناد أو أحتماله لعلها ناشئة من تضافر الآيات والروايات والعقل على أيضاً الحرج.
لذا كان لابد من الرجوع إلى نفس مدركهم وننظر مدى قوته وضعفه. وأما ما ذكر من محقق الإجماع بالتكليف بغير المقدور فهو أيضاً يرجع إلى القاعدة العقلية وأن اتفاقهم بما هم عقلاء لا بما هم فقهاء.. بناء على هذا لا إجماع في المسألة. إلا على مبنى من يرى الإجماع حجة من باب بناء العقلاء فتأمل.
مفاد القاعدة
وهنا مسألة وهي:
أنّه بناء على هذا لا يمكن أن نأخذ الحسبان رفع الحرج مجرد الضيق والصعوبة في قبال السعة والسهولة وان كانت الأدلة مطلقة لغة وعرفاً في معناه والذي يقضي نفي كل تكليف يشتمل على أدنى مراتب المشقة وهذا يوجب رفع اليد عن كثير من التكاليف الشرعية كالصيام في الصيف للكثير من الناس والوضوء في الليالي الشتائية بالماء البارد بل كل التكاليف الأمر الذي يكشف على أن معنى الحرج وإن كان وسيعاً إلا أن المراد منه هنا هو مرتبة خاصة منه فما هي هذه المرتبة وما حدها.. هذا السؤال تحير فيه البعض حتى قال الشيخ الحر قدس سره في كتابه الفصول المهمة بعد ذكر أخبار القاعدة (نفي الحرج مجمل لا يمكن الجزم فيما على التكليف بمالا يطاق وإلا لزم رفع جميع التكاليف)([58]) انتهى.
ولكن بما تقدم عرفنا إمكان تعيين المرتبة وهي:
ما يلزم منه مشقة شديدة لا يتحمل الناس عادة في مقاصدهم فهي القدر المسلم في أدلة نفي الحرج أو أيضاً أن القدر المسلم خروجه منها ما هو أدون من هذه المرتبة كما يشهد به رواية عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في الجبيرة.
والظاهر أن الفقهاء أيضًا لم يفهموا غير ذلك من عمومات نفي الحرج ولذا صرح غير واحد منهم (بجواز التيمم خوف الشين في أعضاء الوضوء) بوجوب يعتبرها بما لا يتحمل عادة أمر بالشديد منه أو بالفاحش على اختلاف تعابيرهم([59]).
كما تعرض السيد اليزدي قدس سره في العروة قال:
«بل لو خاف من الشين الذي يكون تحمله شاقاً تيمم» ([60]) وقرره عليه كثير من محققي المحسنين وزاد بعضهم «إذا كانت بحيث لا يتحمل عادة».
فتحصل في ذلك:
إن المعيار في القاعدة ليس مطلق المشقة والعسر الموجودين في كل تكليف بل المشقة الشديدة التي لا تتحمل عادة في مثل ذاك الفعل.
فليست القاعدة مبهمة أو مجملة كما لا يلزم منها تحقيق الأكثر أو المستوعب كما سيأتي في التنبيهات.
في الفرق بين العسر والحرج..
ثم لا يخفى أن العسر والحرج من قبيل الفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما عن الآخر شمل كلٌ منهما الآخر وإذا ذكرنا معاً كان العسر  بدنياً والحرج نفسياً فمن يتعب أكثر من المقدار المتعارف من الحركة في الشمس مثلاً يكون عسراً عليه وإن كانت برغبته ولذا جاز له الاستظلال في الحج مثلاً.
هذا بناء على حمل معنى العسر على الضيق كما ذهب إليه جملة من الأعاظم([61]) تبعاً لبعض أهل اللغة. وأما بناء على ما ورد في مفردات الراغب من حمل العسر على ما يقابل اليسر فإن النسبة العموم من وجه ومورد افتراق العسر عن الحرج العمل الشاق الذي في قباله أجر ومورد افتراق الحرج عن العسر موارد الخجل الشديد عرفاً وقد يجتمعان ألا أن يقال إن تعبير الراغب لم يكن بالمعنى المطابقي بل تعريف الضد بضده وهو ليس بتعريف لغة بل تعريف باللازم أو الملازم أو الأثر والظاهر أن جمع الفقهاء لهما- العسر والحرج - في استعمالاتهم قرينة على وحدة المعنى ألا أن احدهما بلحاظ يغاير اللحاظ الثاني لعدم وجود الترادف والمطابقة التامة بين لفظين في المعنى وبهذا يظهر قوة المعنى الأول وعليه فالفتاة في بيت أبيها إذا احتلمت وكان غسلها حرجاً شديد عليها تبدل حكمها إلى التيمم.
   وكذلك إذا تزوجت منقطعاً - حيث لا أب لها أو قلنا بكفاية رضاها كما هو مبنى جمع من الفقهاء - فأنها تتيمم. هذا في الحرج النفسي.
وأما الحرج الجسدي فهو الشدة والعسر البدني كما مثل له الإمام عليه السلام في الرواية وقال: «هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله».
ولا يخفى أن الحرج الجسدي لا يلازم الضرر، كما أن النفسي منه لا يلازمه أيضاً إذ النسبة بين الحرج والضرر العموم من وجه.. أذ قد تصاب الفتاة جراء الغسل بالحمى أو المرض وقد لا تصاب إلا بالشدة النفسية كما قد يلزم من العسر الضرر كما إذا مرض بسبب المسح على البشرة كما قد يؤدي إليه.
وعلى هذا يظهر أن العسر والحرج والضرر عنا وين ثانوية ثلاثة حاكمة على الأدلة الأولية فما ذكره البعض في الفرق بين الحرج والضرر في الحكومة غير ظاهر الوجه([62]).
مفاد القاعدة ووجه تقدمها على غيرها من العمومات ثم أن الظاهر أن أدلة الحرج والعسر كالضرر حاكمة على الأدلة الأولية بل الثانوية في الجملة كالتيمم إذا صار عسراً أو ضاراً بسبب بعض الأمراض الجلدية ونحوها. وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه نعم لا أطلاق في تقدمها على الأدلة الأولية أيضاً فأن الواجب المطلق كوجوب إنقاذ الصبي أو مثل الصلاة مما لا يرفعه الحرج كما ستعرف. وهنا أمور:
الأول: هل رفع الحرج نفي أم نهي.. أم بمعنى النهي؟
ـ شيخ الشريعة يرى أن النهي مثل ( لا ضرر) وكأن الآية تقول: لا يضر بعضكم بعضا ولا يكلف بعضكم بعضاً تكليفاً حرجياً ([63]).
وفيه أنّ هذا الاستدلال مضافاً إلى كونه مخالفاً للظهور من الآيات، والروايات، كقوله تعالى: مثل «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» التي كالنص في النفي..
يخرج القاعدة عن كونها قاعدة فقهية عامة تحكم كل أبواب الفقه بل يخصصها في بعض الموارد الجزئية المرتبطة بأعمال المكلفين مثل الديون ونحوها التي قد يسبب بعض الناس عسراً وحرجاً على الآخرين. ولا تشمل الأحكام الحرجية الإلهية أذ .ربما يجعل الله تعالى أحكاماً حرجية وهذا مضافاً إلى كونه خلافاً للمنّه خلاف ما عمل به الفقهاء والأئمة عليهم السلام في الأحكام مثل الجبيرة وغيرها:
والذي يبدو كما هو المشهور أيضاً الـ(لا) فيها (لا حرج) بمعنى النفي وليس النهي. والنفي يفيدنا حكماً تاماً في كل الفقه أنّ الله سبحانه لم يجعل علينا الحرج.
الثاني: نفي الحرج بقوله: âوَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍá له احتمالات أربعة:
1/ قد يقال: أن الحرج والعسر والإصر أوصاف للأفعال التي تتعلق بها الأحكام الشرعية وليس وصفاً للحكم كالضوء والغسل والصوم والصلاة ونحوها..
فالوضوء مع الأمراض أو الجروح هذا حرجي والصيام للمريض حرجي وهكذا فنفس الفعل حرجي على المكلف لا الوجوب أو الحرمة ونحوها.. الا من باب الوصف بحال المتعلق فأنه لو كان في الوجوب ضيق فليس من جهته كحكم بل من جهة متعلقة الذي هو الوضوء.
أذن مفاد الآية: (لم يجعل الله على العباد عملاً حرجياً) وربما يؤيده رواية الاحتجاج التي نقلناها في رفع الآصار التي كانت على الأمم قبلنا ورفعها عنا فإنها ظاهرة أو صريحة في أن نفس العمل كان فيه العسر لا الأحكام.
نعم يمكن أن يقال بأن الحرج نشأ من الحكم بلحاظ إلزامه المكلف والتزامه بالعمل به فإنه يسبب له ذلك ولولاه لكان في سعة ويؤيده وربما يدل عليه أن مفاد الجعل هو ذلك لان الحكم هو الذي يقع أمره بيد الشارع جعلاً ورفعاً أما الفعل فلا والأدلة بعضها صريح في (عدم جعل الحرج) وحيث أن الحرج حالة نفسانية وهي غير قابلة للجعل إذاً لابد من الحمل على المجاز إما بنحو الحقيقة الإدعائية أو بنحو التقدير وأقرب المجازات إلى الحقيقة هو (ما جعل عليكم حكماً حرجياً).
2/ إن المنفي ليس العمل والمكلف به بل الحكم هو الذي يسبب الحرج والضيق وعدم جعل الحرج يعني أن الشارع لم يشرع لنا أحكاماً حرجية وكأن الأحكام الشرعية بعضها صيغته عسرة وبعضها سهلة يسيرة فيكون الحرج من صفات التكليف لا المكلف به.
ولعل مما يؤيده: أن المولى عز وجل مرة يصنع الأشياء بما هو مكون كالخلق والإيجاد والإعدام وليس البحث في ذلك ومرة بما هو مشروع والدي بيده التشريع بيده الحكم وجعل الحكم ورفعه أما العمل فهو من أعمال العباد أنفسهم ويؤيده قوله عليه السلام: «إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم وان الدين أوسع من ذلك» وتؤيده العديد من الروايات المستفيضة.
3/ إذ المراد من الحرج رفع الحكم بلسان رفع الموضوع كما هو مذهب صاحب الكفاية..
بمعنى أنّ ظاهر أدلة لا حرج ليس نفي الحكم بل رفع الموضوعات الحرجية كالوضوء والغسل ونحوها ولكن الفرض في رفع الموضوعات رفع الحكم الشرعي([64]).. وربما نقول أن هذا خلاف ظهور الآية في رفع الحكم لا رفع الموضوع.
4/ أنّ المنفي هنا ليس كل حرج بل الحرج غير المتدارك.. بعد تفسير الحرج بالضرر والضرر غير المتدارك مرفوع أما غيره الذي فيه تدارك من الأجر والثواب والمصالح الواقعية فليس بمرفوع.
وهذا ذهب إليه بعض([65]).
ولكن بعد التأمل في  أدلة نفي الحرج نفهم أن خلاف الظاهر من الأدلة أيضاً مضافاً إلى إمكانه النقض عليه بمثل الطهارة ونحوها من الأحكام التي رفعها الشارع في مورد الحرج فهل يقال أنها غير متداركة؟
والذي يبدو عدم وجود فرق ظاهر بين أن يكون المرفوع الحكم الحرجي أو أن ينشأ منه الحرج كما إذا علم إجمالاً بأن استعماله الماء في الطهارة حرج عليه فإنه يرفع وجوب الوضوء أو الغسل إلى التيمم.
نعم الفرق يظهر في الاحتياط فأنه على مبنى الآخوند قدس سره لا حكومة لأدلة الحرج على الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي فيما لو أوجب العسر والحرج. بخلاف غيره... خصوصاً على ما قلنا إليه تبعاً للسيد الشيرازي قدس سره في القواعد ([66]) فان الجميع تنتهي إلى الحكم الشرعي فهي مرفوعة.
نعم فأن الظاهر من حيث القوة والضعف أن أهم الأقوال هو الأول والثاني.. أما قول الكفاية فبالنتيجة يرفع إلى القول الثاني لأن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يشترك في النتيجة مع رفع الأحكام الحرجية وأما الرابع فهو تخصيص بلا مخصص ظاهر مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر وخلاف المعمول به بين الفقهاء.
ولعل رواية عبد الأعلى مولى آل سام ونحوها تؤكد هذا المعنى. نعم الأقوى هو الثاني لأنّ الشارع له لحاظان بما هو مكون ويجعل فيها الموضوعات ربما هو مشرع ويجعل الأحكام والذي هو شأن للمشرع رفع الحكم أو جعله وليس في شأنه جعل الموضوعات.
وعلى أي حال.. فأن على القول الأول قد تقول بأنّ أدلة نفي الحرج متقدمة على عمومات المثبتة للأحكام الشرعية بعناوينها الأولية ووجوب تخصيص تلك العمومات بأدلة نفي الحرج ووجه هذا التقدم ليس الحكومة كما قد يرى البعض بل يدخل باب التعارض بين الأدلة لأنّ دليل لا حرج النافي للموضوع لا ينظر إلى الأدلة الأخرى حتى يحكم عليها أو يرد فيكون من قبيل ما دل على أنّه (لم يجعل على النساء جمعة ولا جماعة ولا آذان ولا أقامة) فلو كان عندنا عمومات تدل على ثبوت هذه التكاليف عليها لكان يتعارض مع هذا الدليل (لم يجعل).لأن الأول حاكم على الثاني..
نعم يقدم عليه من باب التخصيص ومعلوم أنه عند التعارض تكون النسبة العموم من وجه وبهذا يمكن أن تكون عمومات الأحكام مخصصة ويمكن أن تكون عمومات لا حرج مخصصة.
نعم قد يقول أن لا حرج وارد في مقام المنة على العباد ولذلك يأبى التخصيص لذلك يكون هو المخصص لسائر الأحكام لقوة دلالته ويؤيد هذا استشهاد الإمام عليه السلام بلا حرج في مقابل الكثير من العمومات المثبتة للأحكام وتبع في ذلك الفقهاء أيضاً في أبواب شتى. (كما قال يعرف هذا أو أشباهه من كتاب الله) وأما إذا تمسكنا بالقول الثاني وأن المنفي هو الحكم الحرجي لا الموضوع الحرجي فالذي يبدو أن تتقدم أدلة لا حرج على باقي الأدلة بالحكومة إذ تكون مقيدة لغيرها من الأدلة والعمومات..
كما أنه يلزم من عدم تقديمها لغويتها كما يقال مثله في وجه تقدم سائر الأدلة الثانوية على الأولية([67]).
وعلى هذا رأي المحقق الأنصاري قدس سره الذي قال مفادها رفع الحكم الحرجي تكليفياً أو وصفياً فيكون ساقها ساق لا ضرر بناء على ما حقق في محله من أن المرفوع هو نفس الحكم الضرري وكذلك الحرجي.
والنتيجة التي قد نخرج بها هنا بعدم الفرق في النتيجة بين القولين.. لأنّ مؤدى التخصيص هو مؤدى الحكومة فسواء قلنا بأنّ المرفوع هو الموضوع أو المرفوع هو الحكم فأن أدلة نفي الحرج تتقدم على غيرها..
وكونها في مقام المنّة على العباد يقتضي أن تخصيص غيرها من الأدلة بعنوان التنزيل والإدعاء التعبدي أو بمنزلة تخصيص الحكم عن شموله لبعض المصاديق وإن كان الذي يقوى في النظر إنّ ظاهر أدلة لا حرج هو نفي الحكم لا نفي الموضوع وبذلك يكون التقدم بالحكومة ألا أن النتيجة واحدة.
ولا تظهر ثمرة واضحة في الطرف بين القولين إلا في الاحتياط في الجملة.
خاصة مع سلوك جملة من الفقهاء إلى إن الأحكام الثانوية حاكمة على الأحكام الأولية بلا تخصيص بين حكم وآخر وان كنا لا نساعده إلا في الجملة فأن الحرج كما يخصص الأحكام الأولية قد يكون مخصصاً أيضاً بما هو أهم إذا وقع صغرى باب التزاحم أو بالإجماع أو كان إطلاق الحكم الأولي يأبى التخصيص حتى في مثل الحرج والضرر.
أو كانت أدلة الرفع لا تشمله.
فالأول مثل: الجهاد فأنه يجب وأن استلزم الحرج لمصلحة سيادة الأمة وكرامتها وحقن دماء المسلمين وحفظ أعراضهم وأموالهم وكذا مثل ما إذا بلغت الغريزة الجنسية في الشاب إلى حد الحرج ولا يزول حرجه إلا بالجماع مع امرأة ذات بعل فإن حرجه لا يبيح له ذلك لأن حرمة ذات البعل أهم من الحرج.
والثاني مثل: ما إذا أراد الزنا بالأجنبية بلا عقد شرعي فأن الحرج لا يبيح له ذلك بالإجماع.
والثالث مثل: وجوب إنقاذ حياة المؤمن فضلاً عن النبي والإمام المعصوم عليهما السلام فأنه وإن سبب له الحرج الشديد لا يسقط عن ذمته.
والرابع: كالضمانات فأن المشهور أن أدلة الرفع كالبراءة ولا ضرر والحرج والعسر ونحوها لا تشملها فَمنْ أتلف مال الغير جاهلاً أو تصرف في أموالهم دفعاً للضرر أو الحرج ونحو ذلك فأنه يجب عليه دفع الأجرة أو الضمان فمثلاً من كان في عسر وحرج بسبب البرد والحر فاستعمل مدفئة الغير أو ثلاجته ـ مثلاً ـ وجب عليه دفع الأجرة في صورة البقاء وفي صورة العيب أو التلف يجب عليه الضمان.
ثم أنّه لا يخفى عليك أن أدلة رفع الحرج مطلقة فلا فرق في الحكم المرفوع أن يكون وصفياً أو تكليفياً إذا لم نقل بأن الوضع ليس مجعولاً مستقلاً ـ كما عليه المشهور ـ بل هو انتزاع من التكليف كما مال إليه الشيخ الأنصاري قدس سره وبعض من تبعه.
ولا يقال أن رفع الوضع غير تام من جهتين الأولى: لأن من الوضع ما هو تكوين والحرج لا يرفع التكوينات كالنجاسة وما أشبهه والثاني: لأن بعض الوضعيات ما أمره بيد غير الشارع كالطلاق والنكاح والبيع والشراء فأن أدلة الشارع فيها إمضاء وإثبات على المشهور لأنه يقال: صحيح أن الحرج لا يرفع ذات التكوين إلا أنه يرفع آثاره الشرعية أو المؤاخذة عليه ـ على الخلاف ـ فأن هذا من عالم الاعتبار وأمر الاعتبار بيد معتبره والكلام ذاته يجري في مثل الطلاق والبيع أيضاً.
وعليه فأنه يحق للمرأة التي هي في عسر وحرج من زوجها مراجعة الحاكم الشرعي فيطلقها الحاكم إن لم يقبل الزوج بأحد الخيارين مضت عليهما الآية الشريفة âفَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍá([68])، كما إن اجتناب النجاسة ما دام حرجياً يجوز استعمالها فإذا أرتفع الحرج ترتبت آثارها.. وهكذا من سائر الأمثلة.
نعم الحرج - كالضرر - لا يرفع اللوازم إلا إذا أدل الدليل الخاص على الرفع فمثلاً: إذا اضطر الإنسان إلى شرب الخمر أو الزنا كان عليه غسل الفم ـ بناء على نجاسته ـ والغسل.. بخلاف ما إذا أضطر إلى الاحتجام في الحج مثلاً.. فإنا إذا افترضنا أن الدليل دلّ على الكفارة في صورة العمد فأنه لا تجب عليه الكفارة حينئذ لأجل الاضطرار إلى الاحتجام ـ خصوصاً عند من يرى أن الاضطرار يرفع التكليف ولا يرفع الوضع ـ بل لأجل اقتصار دليل الكفارة على العمد فتأمل.
الرابع: إن نفي العسر والحرج الذي تم بعنوان العموم كيف يجتمع مع ما يشاهد من التكاليف الشاقة والأحكام الصعبة التي لا يشك العرف في كونها عسراً وحرجاً على العباد كالتكليف بالصيام في أيام الصيف الحارة والحج في الصيف والجهاد في سبيل الله والنهي عن الفرار في الزحف وتسليم النفس في إقامة الحدود من القصاص ونحوها والهجرة من البلاد الظالمة لبث مسائل الدين أو لحفظ النفس  أو المال أو العرض ولعل من أشدها جهاد النفس والرياضة الروحية.
فإذا كان الحرج مرفوعاً بنحو عام نجد في الشريعة ما يكذب هذا الرفع العام؟ ويتفرع على هذا الأشكال إشكال آخر ذكره النراقي في العوائد مدعياً عدم تعرض أحد من الفقهاء له لا إجمالاً ولا تفصيلاً إلا طائفة من المتأخرين([69]).
وحاصله: إنا نرى الشارع لم يرضَ لنا بعض التكاليف بأدنى مشقة كما يشاهد في أبواب التيمم وغيره كما يلاحظ في الأخبار الواردة عن الأئمة عليهم السلام من نفسهم بعض المشاق الجزئية مستدلين بنفي العسر والحرج وكذا في كلام الفقهاء ولكن نرى مع ذلك عدم سقوط التكليف في كثير منها بأكثر وأشد من ذلك([70])؟!
والظاهر أنّ العمدة هو الإشكال الأول فإن الثاني متفرع منه لذا فإنّ الإجابة عن الأول تعني عن جواب الثاني فتأمل.
وكيف كان فأنّ هذا الإشكال دفع ببعض الأعلام من القول بأجمال أدلة نفي الحرج ومنهم الحر العاملي قدس سره في كتابه الفصول المهمة([71]).
إذ بعد أن رأى كثرة التخصيصات للقاعدة بالتكاليف الشاقة غير المرفوعة حيث قال بعد نقل طائفة من الأخبار النافية للحرج قال: «نفي الحرج بحمل لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف مالا يطاق وإلا لزم رفع جميع التكاليف» انتهى.
فهو التزم بسقوط هذه الأدلة على الحجية للإبهام ورضي بالقدر المتيقن منها وهو التكليف بمالا يطاق.
والظاهر أنه ينبني على تحقق العسر والحرج في جميع التكاليف كما قدمناه وهو ظاهر الفساد مضافاً إلى أن إجمال رفع الحرج يستلزم رفع اليد عنه في أبواب الفقه وهو خلاف سيرة الفقهاء القائمة على التمسك برفع التكاليف الإلزامية في موارد الحرج كما لا يخفى على المتتبع لو صح هذا مضافاً إلى أن ما ذكره يعد هدماً لأساس القاعدة لأن بطلان التكليف بمالا يطاق مما اتفقت عليه بدهية العقل قبل الشرع كما ذكرنا ويعد من الضروريات في الدين لان القدرة من الشرائط العامة لكل تكليف..
فحصر مفاد القاعدة برفع التكليف غير المقدور مساوق لسقوطها عن الحجية وهو قبيح أو محال للزوم اللغوية في كلام الحكيم مضافاً إلى مخالفته للنصوص الثابتة.
كما في استدلالات الإمام عليه في مسائل الجبيرة ونحوها كما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام وعلى أي حال..
كما أن قوله (وإلا لزم رفع جميع التكاليف) فيه أننا ذكرنا أن المنفي الرتبة الثالثة من الحرج لا كل حرج ولو كان في الرتبة الرابعة. فإن ما ذكره من الإجمال محل نظر.
وكيف كان فقد أورد إجابات عديدة عن هذه الشبهة سنذكر بعضها: منها.. ما أورده النراقي في العوائد ناسباً له إلى بعض سادة مشايخه في فوائده والظاهر أنه السيد بحر العلوم في فوائد الأصول وحاصله: أن ما ورد في الشريعة من التكاليف الشديدة كالحج والجهاد والدية ونحوها ليس شيء منها من الحرج لقضاء العادة بوقوع مثلها والناس يرتكبون مثلها من دون تكليف ومن دون عوض يمكن أن يعوض ما يلاقون بسببها من عسر وحرج كالمحارب للحمية أو بعوض يسير وبالجملة: فما جرت العادة بالإتيان بمثله والمسامحة وإن كان عظيماً في نفسه كبذل النفس والمال فليس ذلك من الحرج في شيء.. نعم تهذيب النفس وتحريم المباحات والمنع عن جميع المشتبهات أو نوع منها على الدوام حرج وضيق ومثله منتف في الشرع([72]).
أقول: ربما يصح ما ذكره في بعض التكاليف إلا أنه بشكل عام يخالفه الوجدان والعرض والسيرة المتشرعية بل والفتاوى والنصوص الواردة عنهم عليهم السلام في الاستدلال على رفع الالزامات بأدلة رفع الحرج هذا مضافاً إلى أن تقاضي الأجور جزاءً أو رجاءً وكذا ما أعتاده الناس من الأعمال الشاقة لا يخرجها عن الحرجية كما هو واضح.. فإن المزارع والبناء والحداد اعتادوا أعمالهم ويتقاضون أجراً عليها الا أنه لا يخرجها من العسر والشدة.
هذا في الأعمال اليومية فما بالك بمثل الحج والجهاد والصيام في الأيام الحارة ونحوها.. والتأمل في كلا حاصل كلامه يظهر لنا وجه المباينة بين ما ذكره قدس سره وبين ما ذكره الحر من الإجمال وعليه فأن جوابه أخص من المدعى.
ومن لاحظ كلمات الفقهاء بل الأخبار المستدل فيها بنفي الحرج يرى أنهم نفوا أموراً لنفي الحرج هي أسهل بكثير من كثير من التكاليف الثابتة ومنها: ما نسب إلى المحقق القمي قدس سره في القوانين([73]) فهو بعد تسليم وجود التكاليف الشاقة والمضار الكثيرة في الشريعة قال:
«أن المراد بنفي العسر والحرج والضرر نفي ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكليفات الثابتة بالنسبة إلى طاقة أو ساط الناس المبرئين عن المرض والقدر الذي هو معيار التكاليف بل هي منفية من الأصل إلا فيما ثبت وبقدر ما ثبت والحاصل: أنا نقول: إن المراد أن الله سبحانه لا يريد بعباده العسر والحرج والضرر إلا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارض الأوساط وهم الأغلبون فالباني منفي سواء لم يثبت أصله أصلاً أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة.. وهذا النفي إما من جهة تضييق الشارع كما في كثير من أبواب الفقه كالقصر والسفر والخوف في الصلاة والإفطار في الصوم وإما من جهة التعميم كجواز العمل بالاجتهاد لغير المقصر في الجزئيات كالوقت والقبلة ونحوهما أو الكليات كالأحكام الشرعية للعلماء»([74]) أنتهى.
ولعل المستفاد من كلامه أمور:
الأول: لعل مراده من الزائد عما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى أوساط الناس هو أن التكليف حيث انه مأخوذ من الكلفة والمشقة فيكون لازمة ذلك وعليه فأن كل تكليف بمقتضى طبعه الأولي فيه مشقة الا ان هذه المشقة والكلفة مأخوذة بالنظر إلى المتعارض بين الأوساط من الناس.. في قبال الضعفاء المريضين أو الأقوياء الاشداد الخارجين عن المألوف والعادة فأن كل تكليف فيه عسر ومشقة إلا أنه ليس كل عسر ومشقة مرفوعة بل ما كان خارجاً عن أوساط الناس وزائداً عن تعارضهم ولعل هذا المعنى هو الذي أراد السيد بحر العلوم قدس سره حسبما أورد من عبارته المحقق النراقي قدس سره.. حيث أنّه صرح بأن التكاليف الشديدة في الشريعة كالحج والجهاد والدية ونحوها ليست شيء منها من الحرج في شيء لقضاء العادة بوقوع مثلها والناس يرتكبون مثلها من دون تكليف ومن دون عوض.
ألا أنّ ظاهر كلامه يدل على نفي العسر والحرج من التكاليف وهو أمر يخالفه ظاهر كلام الميرزا بل صريحه بتسليمها في كل تكليف إلا أنه غير مشمول بأدلة الرفع.. وإما لانصراف أدلة الرفع عن مثلها أو لأنها في مقدور الناس وسعتهم فرفعها عنهم يستلزم رفع كل التكاليف الإلزامية إذ ما من تكليف الا ويلازمه العسر والحرج فتأمل. أو لغير ذلك من الجهات..
الثاني: لعل مراده من قوله أن الله سبحانه لا يريد بعباده العسر والحرج أن التكليف الحرجي الشديد الزائد عن طبايع التكاليف وأواسط الناس لم يكلف به من رأس.. أو أنه كان بالمقدار المتعارف الا أنه زاد على المتعارض عند بعض الأشخاص أو بعض الحالات لذلك يرفعهما الشارع ولعل قوله «فاليأت منفي سواء لم يثبت أصله أصلاً» يشير إلى التكليف الذي يشرعه الشارع من رأس كما أن قوله «ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة» يشير إلى التكليف الذي استلزم الزيادة في العسر والحرج فدفعه الشارع أيضاً.
وعلى هذا فأن المراد من النفي هو الأعم من الرفع بمعنى الدفع كما في الأول أو الرفع بعد الوضع كما في الثاني:
ولعل ما أحتمله المراغي في العناوين من كلامه من الاحتمالين:
احدهما: أن يكون المراد: أن عمومات العسر والحرج كسائر العمومات تخصص بما يرجح عليها من الأدلة بعد إعمال قواعد الترجيح فيكون المراد: أن الله سبحانه لا يريد الحرج الا ما أراده وأثبته من التكاليف التي علم من الدليل الراجح على دليل النفي.
ثانيهما: أن هذه العمومات تعليقية مقيدة في حد ذاتها بعدم الثبوت من الشرع بمعنى أنه كل ما لم يثبت من الشرع فهو عسر منفي فيكون مؤكداً لأدلة أصل البراءة وجارياً مجراها ولا يعارض الدليل الوارد على الثبوت لأنه مقيد بعدم ورود وارد([75]).
والظاهر أن احتماله الأول يشير إلى ثاني احتمالي القمي قدس سره كما أن احتماله الثاني يشير إلى أول احتمالي القمي قدس سره.
كما أن من الواضح أن الرفع بمعنى الدفع يتوافق مع أدلة البراءة ونحوها التي ترفع الحكم بعد تحقق موضوع الرفع. فتأمل.
الثالث: الظاهر أن عبارته المتأخرة مجلة بل في غايته إلا أنه ربما يستفاد منها: أن النفي لما تقدم يكون على أنحاء:
أحدها: أنّه تخصيص لعمومات أدلة الحرج فأن الشارع نص في الكثير من أبواب الفقه على الالزامات وإن تسبب منها العسر والحرج ولعل قوله «والنفي إما جهة تنصيص الشارع» يشير إليه.
ثانيها: إن عموم إلزام الشارع المكلفين بمراعات تكاليفه في الجزئيات حتى في الجزئيات حتى في صورة القصور والحجر حرج وعسر زائد عن أصل التكليف لذا يرفعها الشارع عنهم.
لذا خرّج المقصرين لأنه بتقصيره يكون قد أقدم على إيقاع نفسه بالعسر والحرج وهو مما لا يشمله الدليل أو الدليل الخاص ولعل من هنا أجاز الشارع العمل بالظن في الموضوعات كالوقت والقبلة لآحاد الناس لأن من غير ذلك عسر وحرج عليهم.
  كما أجاز للمجتهدين خاصة العمل بالظن كما هو مبنى الميرزا في الأحكام الكلية بعد بذل الوسع في تحصيلها خصوصاً وأن مبناه قدس سره إنسداد باب العلم والعلمي فلم يبق أمام المجتهد إلا العمل بالظن لان غير ذلك عسر وحرج عليهم أيضاً.
ثالثها: قوله «أو للكليات» يحتمل وجهين.. الأول:
أنه معطوف على جهة فيكون قسماً ثالثاً للقسمين الأولين وحينئذ قد يكون المعنى أن إلزام العلماء يتطبق الكليات على الجزئيات أو إلزامهم بتحصيل الكليات إذا يسبب حرجاً زائداً عن أصل التكليف فهو مرفوع.
والثاني: أن يكون عطفاً على «جزئيات» وحينئذ يكون المعنى أن تكليف الشارع العلماء بتحصيل التكاليف عبر تطبيق الكليات على الجزئيات أو تحصيل أصل الكليات  منصب إلى المتعارض ماداموا غير مقصرين فيها فالتكليف الزائد في رعاية التطبيق أو التحصيل عسر وحرج مرفوع شرعاً. والذي يقوى في النظر هو الثاني كما عرفت مضافاً الأحكام القرآنية عليه.
هذا ما ربما يستفاد من كلامه إلا أن الظاهر فيه مواضع للنظر:
أحداهما: عطف الكليان عن الجزئيات بـ(أو) الدالة على البدلية دون (إما) الدالة على الانفصال والمغايرة بين ما سبق وما لحق فتأمل.
وثانيها: أن التقصير يصدق في الجزئيات وما يقابلها الجزئيات هو الكليات كما لا يخفى.
ثالثها: تقديمه بجواز العمل بالاجتهاد وهو لا يصح إلا للعالم بالأحكام دون الجاهل.. فأن الجاهل مما لا مجال له للاجتهاد الا أن يقال أن مراده تطبيق الحكم الكلي على مصداقه بعد تحديد المصداق ومن الواضح أن تحديد المصداق مما يعود إلى المكلف نفسه فتأمل.
الأول: بعد تسليم صحة ما ذكره من تحقيق أدلة العسر والحرج بعمومات الأدلة الأخرى ـ في الجملة ـ إلا إنا لا نسلم أن كل تكليف فيه عسر وحرج بمقتضى طبعه الأولي لأواسط الناس إذ الظاهر أن التكليف وإن أخذ من الكلفة والمشقة لغة ألا أن المراد في المشقة المرفوعة ما كانت تسبب ضيقاً على بدن الإنسان أو نفسه على ما عرفت في الفرق بين العسر والحرج.
نعم توجد بعض التكاليف قد تسبب ذلك بمقتضى طبعها الأولي لا أن الخدشة في الكلية المذكورة فتأمل([76]).
ولعل ما ورد عن الشهيد قدس سره - كما في الفوائد - معنى المشقة مما يفهم منه ذلك أيضاً قال في معرض بيان المشقة الموجبة للتخفيف:
«هل ما يتيقن عنه العبادة غالباً.. أما مالا تنفك عنه فلا كمشقة الوضوء والغسل في البرد وإقامة الصلاة في الظهيرات والصوم في شدة الحر وطول النهار وسفر الحج ومباشرة الجهاد إذ مبنى التكليف على المشقة ومنه: المشاق التي تكون على جهة العقوبة على الجرم وإن أدت إلى تلف النفس كالقصاص والحدود بالنسبة إلى المحل والفاعل وإن كان قريبا يعظم عليه إستيفاء ذلك من قريبه»([77]).
الثاني: أن ما ذكر مخالف لما عرفت من الأخبار الدالة على تمسك الأئمة الطاهرين عليهم السلام  بعموم نفي الحرج لنفي كثير من الإلزامات الحكمية بسبب إستلزامها العسر والحرج.
كما أنّ سيرة الفقهاء وفتاواهم قائمة على هذا بلا تخصيص للحرج من مورد لآخر. كما ربما يؤيده أن ظاهر أدلة الرفع اللامتناهية وهي تستلزم رفع كل إلزام فيه عسر ومشقة فتأمل.
وبهذا يظهر أن ما احتمله النراقي قدس سره من كلامه قدس سره من كون قاعدة نفي الحرج من باب أصل البراءة فيكون تقديم ما ثبت بأدلة الأحكام من باب تقديم الأدلة الاجتهادية على الأصول الفقهية.. محل تأمل وذلك لأنه بعيد عن ظاهر كلامه مضافاً إلى ما هو مسلم عندهم من أن الأصول العملية وظيفة الشأن إثباتاً وهي متأخرة رتبة عن الإمارات وأدلة رفع الحرج إمارات.. فمع وجودها فأن التكليف مرفوع ثبوتاً وأين هذا من البراءة؟
الثالث: مضافاً إلى أنّ النسبة بين لا حرج والأدلة الأخرى العموم من وجه وفي مورد التعارض لا مجال إلا لتقديم لا حرج وإلا لزم لغويتها.. أو يقال بالتساقط والرجوع إلى الأصول العملية وهذا أيضاً يستلزم لغويتها.. كما يستلزم مخالفتها للامتثال والتخيير خلاف ظاهر أدلتها الدالة على النفي كما لا يخفى فتأمل.
ومنها ما أجاب به البنجوردي([78]).
وحاصله: على وفق عالم الثبوت والإثبات:
أما الثبوت أن رفع الحرج حكم امتناني ولطفي بالعباد فإذا كان رفع الحكم الحرجي أو عدم جعله يكون خلاف الامتنان وخلاف المصلحة الشخصية أو النوعية فلا بد وأن يجعل ذلك الحكم ولو كان فيه ضيق وعسر وإلا تفوت تلك المصلحة الشخصية أو النوعية وهو خلاف اللطف والامتنان.
أقول: ويؤيده عمل العقلاء بالإقدام على العمليات الخطيرة ونحوها... وأما في مقام الإثبات فلابد وأن ينظر إلى ذلك الحكم الحرجي فأن كان حرجيا لجميع المكلفين ودائما وفي جميع الأوقات أو نوعياً وأن لم يكن حرجياً بالنسبة للقلة من الناس ومنه يستكشف أهمية الملاك بحيث لم يرضَ الشارع بفعله في التحريم أو تركه في الوجوب وطلب الفعل كما في الجهاد والحج أو الترك كما في الصوم وإن كانا حرجيين.. لذلك لم يرفع حتى إذا كان فيه الحرج.
وأما إذا لم يكن حرجيًا إلا لبعض الأشخاص أو في بعض الأوقات أو في بعض الحالات ففي مثل هذه الموارد يتمسك برفعه بقاعدة نفي الحرج.
فالحكم المجهول بعنوان عام إذا كان بعض مصاديقها حرجياً يرتفع عن تلك المصاديق بأدلة نفي العسر والحرج كالوضوء في البرد الشديد القارص والمسح على البشرة وعلى هذا قس ما سواه.
ومعلوم أن هذا الجواب.. تخصيص للقاعدة وحصر لمفادها في بعض الدوائر.
وقد أجاب بعض المعاصرين عن ذلك([79]) وقال هو المعتمد لحسم مادة الإشكال وخلاصته:
أن التكاليف الحرجية الواردة في الشريعة على أقسام ـ والتي ذكرت في بداية الإشكال ـ:
منها: ما ليس حرجياً بالغاً بحيث يستلزم الرفع.. كحج بيت الله الحرام ودفع الخمس والزكاة. فأن العسر والحرج المرفوع إذا كان في الرتبة الثالثة لا الرابعة وحرج هذه التكاليف في الرتبة الرابعة.
خصوصاً مع صرف هذه الموارد في شؤون المجتمع وترويج الدين وإصلاح حال الفقراء والمساكين والصدقات الجارية فأن الدافع يحس بيسر وسهولة وقربة إلى المولى إذا وجد أن حقه الشرعي يدفع في مصارف الآخرة والإنسانية.
ويؤيده أنا نرى العقلاء في جميع الأمم يسلكون هذا المسلك ويدفعون من جيوبهم أموالاً تبرعية كصدقات جارية في هذا السبيل فكيف إذا كانت لازمة ومن الحقوق الواجبة عليه فأنهم يدفعون بكل يسر وسهولة ولا يعدونه حرجياً.
وهكذا نحن إذا علمنا أنه حق آل محمد وانه يصرف في ترويج مذهبهم وتقوية الحق على الباطل.
وهكذا الحج فأن من يعلم أنه يذهب إلى بيت الله وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقوة الروحية التي يحصلها لا يحس بحرج الحج أما لعدم الحرج وإما لخفته جداً.
ومنها: ما يكون الضيق والعسر ناشئاً من سوء اختيار العبد نفسه ومن جراء فعله كالقصاص والحدود وما شاكلها فإن المكلف بسوء اختياره يوقع نفسه في موجبات الحدود الشرعية والقصاص وغير من الحرجيات فأنه أذا لم يقتل نفساً بريئة لم يستحق القصاص وهكذا. ومن المعلوم أن أدلة رفع الحرج منصرفة عن الموارد الحرجية التي يسببها العبد لنفسه بسوء اختياره لأنه إذا أراد الشارع أن يرفع الحرج عن هذه الموارد أيضاً يقتض رفع الحد والقصاص وهذا يكون خلاف الامتنان لما فيه من ذهاب حق الناس وهو ظلم كبير.
إذن هذه الموارد لم تشملها أدلة لا حرج حتى يخرج عنها بالتخصيص فهي خارجة تخصصاً لا تخصيصاً.
ومنها ما يكون وجوده حرجياً ونسلّم بلزوم رفعه لأدلة الحرج مثل الوضوء والصيام ونحوها من الحرجيات إذا بلغ مشقته حداً لا تتحمل عادة.
ولكن السؤال في بلوغ هذا الحد من التكاليف..
إذ هي في الغالب تقع بشكل قليل وإلى القليل من الناس وليس إلى الأكثر أو الكل.
بل صرح النراقي قدس سره ([80]) في معرض جوابه للحر الذي ذهب إلى أن جميع التكاليف فيها العسر بل والحرج([81]) بأن المرجع في تحقق مصاديق العسر والحرج هو الغرض إذ لابد في تحقيق العسر ما كون الخدمة مما يشق عرفاً ويصعب عليه تحمله وهذا غير منطبق في العديد من التكاليف الشرعية فإن رد السلام تكليف مع عدم كونه صعباً بل وكذا الوضوء وركعات من الصلاة سيما مع عدم مزاحمته لشغل مهم وعدم كونه في برد شديد وكذا الصوم سيما في الأيام الباردة القصيرة مستدلاً عليه بقوله سبحانه âوَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá، بجهة أن التقليل دل على أن الصوم مع المرض وفي سفر عسر وأنه في أيام آخر خالية عن المرض والسفر يسر. فتأمل([82]).
ومنها ما تلتزم فيها بتخصيصها القاعدة الحرج.. وذلك لأنّ دليله أخص أو بمنزلة الأخص كالجهاد وحرمة الفرار من الزحف ونحوها فهذه وإن كان فيه حرج كما قال تعالى âكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْá كما سمى سبحانه واقعة الأحزاب بيوم العسرة ووصف فيها حالة المؤمنين:  âِإِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ á ([83]) نعم في هذه الموارد تلتزم تخصيص أدلتها لأدلة رفع الحرج.
هذا إذا لم نناقش في أصل صدق الحرج منها بالنسبة للمؤمنين المعتقدين بهدفهم وعواقبهم فأن المؤمن المعتقد يحس في الجهاد لذة ما فوقها لذة وليس عسر أو يكون عسرة مقابل لذته لاقياس له.
كما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدر وأحد وأصحاب الحسين عليه السلام الذين كانوا يستأنسون بالموت أستئناس الرضيع بمحالب أمه وهكذا.. وعلى فرض وجود العسرة بالفعل فتكون حاكمة أو مخصصة لقاعدة الحرج من باب الأهم والمهم أو نجيب بما أجاب عليه سماحة السيد قدس سره عنها بالخروج التخصيصي لقوله بأن أدلة العسر والحرج والضرر لا تشمل ما وضع شرعاً في موردها كالخمس والجهاد ونحوها فتأمل.
نعم.. إذا صار العسر فوق القدرة وخارجاً عن المتعارض فأن دليل رفع العسر والحرج محكّم حينئذ وذلك لأن أدلة تلك الأحكام العسرة مرفوضة إلى الأعسار المتعارضة لا الخارج عنها فتأمل.
ان قلت: كيف تجوزون تخصيص عمومات نفي الحرج هنا مع إعترافكم سابقا بأن لا حرج آبية عن التخصيص لورودها مورد الامتنان؟
قلت: أن تخصيص قاعدة لا حرج أذا كان منافياً للامتنان فلا يقوى على التخصيص وأما إذا كان التخصيص موافقاً للامتنان فلا شك أنه يخصص.
وهنا إذا خصصت أدلة الجهاد ونحوها لقاعدة لا حرج يكون مطابقاً للامتنان لان رفع الجهد في سبيل الله سيشكل أضراراً وأخطاراً عظيمة على المسلمين وتنتهي إلى العسر والحرج الأكبر في الأمور المالية والأعراض والأنفس فإذا خصصنا أدلة وجوب الجهاد بأدلة لا حرج يكون خلاف المنة وليس العكس فتأمل.
ثم لا يخفى عليك أن العسر والحرج لا يدوران مدار شدة التكليف ـ كالجهاد والحج ـ وعظم شأنه فقط بل مدارهما على الصدق العرفي وهو قد ينشأ في زيادة الكم وغلبة الوقوع وعموم البلوى أو ندرة المناص والعلاج وإن كان شيئا لا يعد تكليفاً في نظر العقلاء أو المكلفين وتوضيحه كما في العناوين.
أن العسر والضيق قد يصير بزيادة الكم ولو في تكليف سهل مثل: لو امرهُ الآمر بقراءة القرآن ثلاثة أيام متوالية ولو في مكان مريح عد هذا ضيقاً ولم يرخص في الاعتكاف للخروج عن المسجد لحاجة أو لفضاضة أو نحو ذلك عد ضيقاً.
فأنا لا ننكر صعوبة مثل الجهاد لكن المدار على صدق الضيق والحرج دون الصعوبة وزيادة مرتبة العمل ومقداره ولا نجد في عدم عدِّ الناس وجوب الجهاد ـ مثلاً ـ ضيقاً وحرجاً لوقوعه كثيراً بين دواعيهم النفسانية وعدّهم بخاسة ماء الاستنجاء حرجاً من جهة كثرة وقوعه أو قلة المياه سيمّا في الاماكن قليلة الماء فإن الالتزام بتطهير كل ما يصيبه شيء من ذلك يعّد حرجاً.
وبهذا أجاب أيضاً عن الاشكال المتقدم بأن ما ورد في الشرع من تكاليف المتقدمة ليس مما يعّد عسراً وحرجاً عرفاً كما عرفت. وأما أستدلال الأئمة عليهم السلام في بعض الأمور الجزئية بنفي الحرج فأجاب عنه بوجوه:
أولها: ما عرفت سابقا أن من إستدلالاتهم عليهم السلام غالباً في قبال العامة والمقصود إسكاتهم بظاهر الكتاب.
ثانيها: أن أغلب موارد الاستدلال يعد في العرف حرجاً ولو لم يكن فيه نص خاص لكنّا ننفيه أيضاً بالعموم..
ولكن لا يخفى على الفقيه النبيه أنّ الأحكام المذكورة - كالجهاد والصيام والحج والديّات ونحوها- ليست حرجية حتى تشملها الأدلة أما غيرها من التكاليف أنها إذا لم يثبت الترخيص فيها بعمومات رفع الحرج لكان ضيقاً على الناس في معادهم ومعاشهم([84]).
وأنت ترى أنّه في الجملة صحيح إلا أن لا يثبت لنا كبرى مكية يمكن ان تشتمل جميع الأحكام المذكورة كما عرفت.
هذا مضافاً إلى أن ما ذكره من الجواب الثالث مما لا يخلو من ضعف وحاصل كلامه فيه:
أن الاستدلال بنفي الحرج لا يستلزم منه أن يكون ذلك الشيء حرجياً بل لعل الحرج نشأ من إنضمامه إلى التكليف الآخر.. بمعنى إن استدلال الإمام بقوله سبحانه: âمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍá يريد أن الله سبحانه كلّف بتكاليف بيّنه سهلة لا تصل إلى حد العسر والحرج لكن انضمام بعض الجزئيات إليها جعلها حرجية وعليه فلو لم يرخص فيها لزم من انضمام ذلك إلى تلك التكاليف الحرج ووضحه بأن المولى إذا أمر عبده بتصعيد مائة مَنّ من الطعام إلى السطح من درج عالٍ لا عسر فيه لكن لو أضاف إلى ذلك إلزامه بوضع رجله عند الصعود والنزول بوضع خاص عُدَّ حرجاً وإن كانت هذه في جنب أصل التكليف بمنزلة العدم ومثله له بالشرعيات بالصلاة فأنها لا حرج فيها ولكن جعل الثقل على القدمين بالسّوية موجب الحرج([85]).
أقول: أن ما ذكره مما يخالف ظواهر الأدلة وفهم الأصحاب من التكاليف الإلزامية مضافاً إلى أنه لم يقم عليه دليل ظاهر فتأمل.
وكيف كان.. فإن السر والحرج إذا ثبتتا موضوعاً بحسب حكم العرف والعادة فإنه يرفع الأحكام الإلزامية الأولية الا ما خرج عنه بدليل تخصصي أو تخصيصي.. كما ينبغي الفحص عن المخصصات كسائر المخصصات والمقيدات فأن العمل بالعام أو المطلق لا يصح قبل الفحص كما ثبت في محله.. فإن قطعنا بالتخصيص أو قطعنا بالنفي للعسر والحرج فيها وفي صورة الشك فإن الظاهر الرجوع إلى الأصول العامة المحكمة في موردها.. لبقاء التكليف الأول منجرًا حتى يخرجه الدليل ولم نقطع بالخروج لا مجال للتمسك بعمومات الرفع لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وإن لم يكن هناك عامل لفظي نرجع إليه فان القاعدة هو العمل بالاستصحاب وفي صورة عدمه موضوعاً أو حكماً فالاحتياط للقطع بالاستقلال مع الشيء في الفراغ فتأمل.
ولا مجال للتمسك بأصالة عدم كونه عسراً أو حرجاً لإثبات بقاء التكليف لأنه مُثبِتْ.. نعم قد يقال أن الواسطة خفية وفي مثلها فأن العرف يتمسك بالاصل والمسألة حينئذ تصبح موضوعية وعهدة الحقية على مدعيها.. والله العالم.
ثم أنه قد يترجح جانب التكليف على أدلة رفع الحرج بإجماع أو سيرة أو فهم أو أرتكاز عرفي أو فقاهي وحينئذ ينبغي الاقتصار على القدر الذي ثبت فيه الدليل ولذا قد يثبت بالاجماع مثلاً التكليف في شيء مع مرتبة من المشقة تتحمل ضغط الغريزة الجنسية وان سببت عسراً ومشقة في قبال الزنا أو اللواط كما فيه لا يثبت الإجماع في مرتبة فوقها أو أدنى منها. وبهذا يظهر بعض السر فيما نرى في كلمات الفقهاء من أنهم قد يستدلون بانتفاء حكم فيه أدنى مشقة بانتفاء العسر والحرج وربما لا يستدلون فيما هو أشد من ذلك بكثير به. فتأمل جيداً. 
الحرج شخصي أم نوعي ؟!
الخامس: هل بالحرج الشخصي هو الملاك أم بالنوعي؟
الذي يظهر فيه مفاد الأدلة أن الملاك هو الحرج الشخصي.. لا النوعي. لأنّ العناوين الواردة في لسان الأدلة واردة في مصاديقها الشخصية في لا ضرار فكما أن لا ضرر الأصل فيه الشخصي كذلك هنا ويساعده رواية عبد الأعلى مولى آل سام وغيره فإنها واردة في الشخصية كما أنه الظاهر في الدليل. خصوصاً بعد أن قلنا أن الحرج النوعي لو كان ملاكاً لزم رفع العديد من مهمات الأحكام الشرعية ورفعها خلاف المنه.
هذا كله مضافاً إلى عدم أنضباط الحرج النوعي.. إذ لو كان النوعي هو الملاك فلا يخلو من ضبابية إذ هَلْ المدار نوع المكلفين في جميع الأزمنة والأمكنة أم المدار على أهل عصر واحد أو أهل مكان واحد أو صنف خاص منهم أو غير ذلك من الاحتمالات وحيث يقع الابهام في تشخيص ذلك يبقى العسر والحرج مردداً وإذا ترددنا قد نرجع إلى التمسك بأستصحاب التكليف وهذا ينفي قاعدة الحرج وهو خلاف الحكمة لأنه تشريعها سيغدو لغوياً فتأمل.
لذلك لا مناص من الالتزام بالحرج الشخصي.
وعليه فأن تمكن المكلف في تشخيص كون الشيء عسراً أو حرجاً أو ما أشبه فيها كما أجاب الإمام عليه السلام السائل الذي سأله عن الصيام بأن âالإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌá([86]) ولو تعذر عليه ذلك فالمرجع فيه إلى أهل الخبرة لانه موضوع مستنبط.
السادس: أن العسر والحرج يختلف باختلاف الأشخاص والحالات والأمكنة والأزمنة والظروف المختلفة وغير ذلك.
فرب حرج يكون لشخص هو غير حرجي لآخر كالضعيف والقوي وكذلك بلحاظ الحالات كالصحة والمرض.
ورب حرج يصيب الإنسان في مكان دون آخر كتحصيل الماء في الصحاري دون الشاطئ أو في زمان دون آخر كزمن الحج وزمن الزيارات الكبيرة المخصوصة ونحوها.
لذلك ينبغي ملاحظة الحرج موضوعاً فيأتي وقت تحقق الحرج موضوعاً فهو مرفوع واللازم فيه.. أن يعد في العرف مشقة أو عسراً أو حرجاً على فاعله عند متعارف الناس وإن لم يكن كذلك عنده أو عند القلة منهم.
السابع: هل قاعدة لا حرج تشمل العدميات أم لا؟
الظاهر أن القاعدة تشمل الأحكام الوجودية (كالواجبات) والعدميات كذلك (كالتحريمات) كما هو في قاعدة لا ضرر.
بمعنى أنه لو لزم من ترك بعض الأفعال ضيق وحرج على المكلف ـ كترك شرب مايع بخس ـ أو ترك المرأة لمراجعة الطبيب ـ فأنه يجوز ـ شربه وترفع حرمته بمقتضى نفي الحرج وذلك لأطلاق أدلة نفي الحرج فان إطلاقها يشمل كل حكم حرجي تعلق بالوجود أم بالعدم مثل قوله تعالى âوَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ á، «أن الدين ليس بمضيق»، «الدين أوسع من ذلك».
أن قلت: هذا إذا كان مبنانا يتعلق الرفع بموضوع حرجي لا التكليف. وأما إذا قلنا الحرج صفة للحكم للموضوع فأنه لا يمكن شموله للعدميات لان عدم الحكم ليس حكماً ولا يصدق عليه أنه مما جعله الشارع فلا يشمله دليل âمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍá.
وفيه أنّ الغرض يحكم بعدم الفرق بين الموجود والعدم في الأحكام خاصة إذا أرجعنا الأمر الذي ظاهره عدمي إلى أمر وجودي فأن الترك فعل من الأفعال وليس أمراً عدمياً.
ويؤيده أن الأحكام التكليفية الخمسة أمور وجودية لأن معنى التكليف يعني إيجاد البعث نحو العمل وهذا أمر وجودي غاية الأمر أن بعض التكاليف متعلقها الفعل وبعضها متعلقها الترك هو أيضاً من مقولة الفعل فهو أمر وجودي.
الثامن: هل نفي الحرج رخصة أم غرَيمة؟
بمعنى أن العبد إذا كان عليه التكليف حرجيًا كالوضوء أو الغسل ونحوها ومع ذلك أتى بالعمل الحرجي فهل يجزي عنه لكون المرفوع هو الوجوب فقط لا أصل مشروعية العمل.
أو لا يجزي لكونه باطلاً لان الحرج رفع التكليف به رأساً فيكون العمل به تشريعاً محرماً؟
الذي يظهر من جماعة من الفقهاء أنها رخصة لا عزيمة.. يظهر من جماعة أخرى العكس.
قال في الجواهر في ذيل مسألة سقوط الصيام عن الشيخ والشيخة وذي العطاش ما نص عبارته:
«ثم لا يخفى عليك أن الحكم في مقام ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة كون المدرك فيه نفي الحرج ونحوه مما يقضي برفع التكليف... - إلى أن قال - مع عدم ظهور خلاف فيه من أحدى أصحابنا على ما عساه يظهر من المحدث البحراني قدس سره فجعل المرتفع التعيين خاصة تمسكاً بظاهر قوله تعالى: وعلى اللذين يطيقونه طعام إلى قوله: أن تصوموا خير لكم».
وظاهر كلامه أن دلالة عمومات نفي الحرج على ارتفاع التكليف كلية وكونه من باب العزيمة أمر مفروغ منه حتى ان ذهاب المحدث البحراني قدس سره إلى الرخصة في هذا المورد الخاص إنما هو لقيام دليل خاص عليه وهو قوله: âأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْá([87]).
وقال المحقق الهمداني قدس سره في مصباحه في بعض تنبيهات مسوغات التيمم بما حاصله:
«ان التيمم في الموارد التي ثبت جوازه بدليل نفي الحرج رخصة لا عزيمة فلو تحمل المشقة الشديدة الرافعة للتكليف وأتى بالطهارة المائية صحت طهارته.... فأن أدلة نفي الحرج لأجل ورودها في مقام الامتنان وبيان توسعة الدين لا تصلح دليلاً الا لنفي الوجوب لا لرفع الجواز» ثم أورد على نفسه بقوله:
فأن قلت: إذا إنتفى وجوب الطهارة في موارد الحرج فلا يبقى جوازها حتى تصح عبارة فأن الجنس يذهب بذهاب فصله....
إذن إتيان الأحكام الحرجية في مواضع رفعها تشريع محرم؟
قلت: أن دليل لا حرج لا يقتضي إلا رفع الإلزام لا رفع ملطوبية الفعل ومحبوبيته ولا يفهم من أدلة نفي الحرج إلا هذا.
وقال المحقق اليزدي قدس سره في العروة الوثقى في المسألة (18) من مسوغات التيمم:
بأنه لو كان الماء «موجباً للحرج والمشقة كتحمل ألم البرد أو الشَيْن مثلاً فلا يبعد الصحة وأن كان يجوز معه التيمم لأن النفي للحرج من باب الرخصة لا العزيمة ولكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضته فيتيمم أيضاً».
وقد أشكل على هذا الكلام الكثير من المعلقين على العروة بأن أما التيمم واجب أو الاحتياط فيه غير لازم.
وعلى أي حال: ففيما ذكر مواقع النظر:
أولاً: فتظهر مما تقدم أن أدلة نفي الحرج تتقدم على أدلة الأحكام لقوة دلالتها وحكومتها فتخصص عمومات الأحكام ومن الواضح الثابت في الأصول أن الحكم أمر بسيط وليس بمركب فإن المعالم قال أن الوجوب حقيقة مركبة من طلب الفعل مع المنع من الترك ولكن أشكلوا عليه وردّوا هذا المبنى ببساطة الوجوب وان الوجوب يرجع إلى الطلب والطلب إرادة والإرادة واحدة بسيطة لأنها كيف نفساني نعم تختلف بالرتبة فالرتبة الشديدة من الطلب والإرادة يسمى وجوباً والأخف مستحب وهكذا.
وعلى هذا يتضح ان أدلة الأحكام لا دلالتها على أمرين: الإلزام والمطلوبية حتى إذا ارتفع الإلزام تبقى المطلوبية بل المستفادة منها حكم واحد إثباتًا ونفيًا ويؤيد هذا الظهور العرفي من الأوامر والنواهي والأحكام فالحكم واحد أما مرفوع أو ثابت.
ثانيا: ما ذكره من الجنس والفصل مسألة عقلية لا دخل لها في المفاهيم العرفية والأدلة الشرعية المنصبة إلى العرف وعلى فرض صحتها فإنا نقول.
ثالثا: هذا مضافاً إلى أن الحكم لو كان مركباً من الجنس الذي هو المطلوبية والفصل الذي هو الإلزام فأن الجنس (المطلوبية) يرتفع بارتفاع فصله لان الفصل هو علة وجود الجنس أو تشخصه ولولاه يبقى الجنس حقيقة مبهمة لا وجود أو لا تشخيص لها فكيف تبقى المطلوبية بعد ارتفاع الفصل.
إذن متى ما رفع الإلزام ينتهي إلى رفع كل الحكم. فالعمل به في مورد الحرج تشريع محرم.
فالذي يبدو للنظر ان أدلة نفي الحرج تدل على نفي الأحكام الحرجية رأساً فهي عزيمة لا رخصة.
دليل آخر على كونها رخصة: قالوا:
أنا نعلم خارجاً أن الوضوء والغسل الحرجيين ونحوهما لا يترتب عليهما أي مفسدة موجبة لنقصان ملاك المحبوبية فيها..
وبعبارة أخرى.. لو سلمنا أن أدلة رفع الحرج ترفع الوجوب تحكم إلا أنها لا ترفع الملاك وهي المحصلة أو المحبوبية.. إذ أن مقتضى المنة أن يرفع عن العباد الوجوب للضيق والحرج ألا أنّه لا منة في رفع الملاك والمحبوبية..
بناء على هذا يكون عدم الوجوب ليس من جهة عدم المقتضي بل من جهة وجود المانع وهو ما أراده الشارع من المنة واللطف على العباد..
وواضح أن المانع يرفع الوجوب ولا يرفع المقتضى فتبقى المصلحة والمحبوبية باقية ومعلوم أن الأمر قد يتعلق بالشيء لفظاً وقد يتعلق به ملاكاً إذ يكفي في عبادية الشيء قصد الملاك وأن لم يكن الأمر موجوداً.. وما نحن فيه كذلك فأن الأمر إذا ارتفع لوجود الحرج فأن ملاكه موجود فيمكن للعبد ان يتوضأ أو يغتسل الغسل الحرجي بقصد الملاك ويكون فيه العبادة ويصح شرعاً ولا يحتاج إلى التيمم..
ويؤيد هذا ما ذكره الأصوليون القائلون بصحة الترتب بناء على عصيان الضد الأهم ـ كالإزالة للنجاسة من المسجد ـ والانشغال بالصلاة الذي هو ضد عبادي للإزالة وفي رتبة المهم فأنه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده إذا أعطى المكلف الأمر بالإزالة وهو الأهم وانشغل بالصلاة وهو المهم وإن كان الأمر بالصلاة غير موجود لوقوعها في معرض النهي لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده إلا أن فقدان الأمر لا يعني فقدان الملاك إذ ملاك الصلاة ومحبوبيتها بانية لذلك لو عصى المكلف الإزالة وذهب وصلى فالقائلون بصحة الترتب قالوا بصحة الصلاة..
وهكذا ما نحن فيه فأنه لو عصى رفع الغسل واغتسل غسلاً حرجياً فأنه تصح منه عبادة إذا أتى بها بقصد الملاك.
وفيه:
اولاً: بعد وجود أدلة نفي الحرج لا نعلم بوجود الملاك حقيقة لاحتمال وجود مفاسد في الغسل والوضوء الحرجي ونحوهما ولذا رفعها الشارع.. بل لعل العمل برفع الحرج فيه الملاك لما ورد من أن الله عز وجل أحب أن يؤخذ برخصه كما أحب أن يؤخذ بعزائمه ونحوها وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
ثانياً: لو لم نقل برفع التكليف في مورد الحرج لزم منه كثرة المخالفة والعصيان وهي مفسدة عظيمة ولهذا ذهب البعض إن نفي الحرج لازم على الواجب الحكيم من باب وجوب اللطف فتأمل.
ثالثا: أن عدم العمل بمقتضى رفع الحرج والتيمم بدلاً عن الوضوء والغسل فيه تضييق على النفس وقد نهى الإمام عليه السلام ذلك بفعل الخوارج وقال عملهم هذا جهالة.. من جهة.
ورفض لقبول اللطف والمنة الأهلية وفي هذا من المفاسد مالا يخفى فأن الله سبحانه يجب التسليم لأمره وعدم الرد لحكمه (ويسلما تسليماً)، (ثم لا يجدون حرجاً فيما قضيت) ونحو ذلك..
كما وردت الأخبار في باب عدم صحة التمام في مورد القصة من التقليل بأنه رد لتصدق الله عز وجل ومنته على الأمة مثل ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام قال سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « أن الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟»([88]).
رابعاً: أن مصلحة ضرب القانون وبقاء القوانين الإلهية تقتضي العمل بمقتضى رفع الحرج وعدم التخلي عنها.
وعلى أي حال فالغرض مما تقدم أن نبذ احتمال وجود مفسدة في عدم العمل بمقتضى رفع الحرج والإتيان بالتكاليف الحرجية ومع هذا الاحتمال لا تصح دعوى القطع بوجود الملاك والمحبوبية وعدم وجود مفسدة فيها ومن المعلوم أنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. هذا فضلاً عما قلنا من احتمال وجود الملاك في العمل بمقتضى الرفع.
خامساً: من الواضح أن التيمم تكليف في طول الغسل والوضوء لا في عرضه فهو بديل عنهما لاي عرضهما هذا هو المستفاد في أدلة تشريع التيمم والمرتكز في أذهان المتشرعة ومعنى هذا أنهما لا يجتمعان في مورد بحال من الأحوال.. ويؤيده اشتهار القول بينهم «إذا حضر الماء بطل التيمم» مما يكشف عن كونهما طوليين لا عرضيين والقول بالرخصة يستلزم أن يكون التيمم في عرض الوضوء والغسل فيجوز في حال واحد التيمم والوضوء والغسل وهو واضح البطلان.
وحاصل ما تقدم أن الأقوى بحسب ما يستفاد من الأدلة الواردة بنفي الحرج كونه من باب العزيمة لا الرخصة كما صرح به الشيخ الأجل في الجواهر وجعله أمراً مفروغاً منه بناء على هذا لا يجوز تحمل الفعل الحرجي ولو فعله لا يجزي ولا يبرئ الذمة والله العالم.
 إشكالات:
1/ إن قلت أن المرفوع في لا حرج هو اللازم لأنّه أمر اعتباري والأمر الاعتباري قابل للرفع لأنه راجع إلى اعتبار المعتبر وأما الملاك فهو من الأمور التكوينية والأمور التكوينية غير قابلة للرفع وإنما يرفع بأسبابه التكوينية وليس بقاعدة لا حرج وغيرها من الإعتبارات.
2/ إن الأمر يكشف عن وجود الملاك فإذا سقط الأمر لا دليل يدل على وجود الملاك.. وكأن الأطلاقات والعمومات للأدلة الأولية تدل على أمرين الوجوب والملاك فإذا سقط الوجوب يبقى الملاك على حاله.
والجواب عن الأول: بأنه صحيح أن الملاك أمر تكويني لا يرتفع الا بأسبابه التكوينية الا اننا لا نقول بأن لا حرج يرفع الأمر ويرفع ملاكه بل نقول: أن دليل لا حرج برفعه للالزام يكشف عن وجود ملاك المفسدة في العمل الحرجي لو أراد العبد ن يقدم على تحمله لان لأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.
ومعلوم أنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال عن وجود الملاك في الفعل بل لعل الملاك في الترك..
مضافا إلى أن الملاك قد يكون في الترك لدليل المنّه ومصلحة التسهيل وأن التضييق لا يرده الشارع لأنه من الجهالة.
وأما عن الثاني: فالكلام إذن بعد نفي التكليف الحرجي لا علم لنا بوجود الملاك بل قد يكون الملاك على العكس ولذا نهى الشارع عن الوضوء الحرجي وجعل التوضي بنحو العبادة مبطلاً للعبادية..
إشكال آخر:
وهو أن المكلف إذا توضأ وجوباً يكون آكداً في الانقياد والعبودية للمولى وهو أمر راجح ومحبوب ويؤكده ما ورد (أفضل الأعمال العبادات أحمرُها) أي أشدها..
كما ورد (الأجر على قدر المشقة) ومن الواضح أن العقل والعقلاء يمدحون من يتحمل المشاق في سبيل إطاعة المولى.. فكيف ينسجم هذا مع دفع الأحكام الحرجية والعسيرة؟
نقول: أما الحديث الشريف (أفضل الأعمال أحمرُها) فهو حمل وجوهاً:
1/ أن يكون بنحو القضية الحقيقية التي لا علاقة لها بدليل لا مرجح وإنما يريد أن يكشف عن حقيقة معينة وهي أن أفضل أعمال العبد ما كان فيه تكليف ومشقة في سبيل الطاعة.
ولكن أحمزها لا يعني في كل مراتب المشقة الأربعة بل هو ساكت وحيث أن الأولى والثانية محالة عقلاً والثالثة مرفوعة شرعاً فلا يشمله بقي أن يكون في دائرة الرتبة الرابعة وهو أمر واقع وممكن.
2/ أن (أفضل الأعمال) قياساً إلى (لا حرج) يكون لا حرج وارداً عليه أو حاكماً لأن العمل العبادي إنما يكون إذا كان فيه تكليف من المولى ولا حرج يرفع التكليف أذن لا يصدق على العمل الذي بلا تكليف أنه عبادة بل لعله يكون مصداقاً للتشريع المحرم.
نعم في المواقع التي التكليف فيها موجود ويحتمل الإنسان المشقة والزحمة بأن يأتي بالعمل عن أحسن وجه مع سائر الآداب والمستحبات والفضائل فأن هذا أمر صحيح.
3/ أن أفضل الأعمال من جهة الثواب أحمزُها ويؤيده (الأجر على قدر المشقة) ومعلوم أن العمل الذي لا تكليف فيه لا أجر له لأن الأجر مقابل الطاعة وحيث لا طاعة لا أجر..
وليس الإتيان بالعمل العبادي الحرجي انقياد، بل الانقياد على خلافه وهو الالتزام بما أمر المولى وقنن ومن قوانينه عدم الآتيان بالعمل الحرجي. فأن الله سبحانه أحب ن يؤخذ برخصهم.
أذن أفضل الأعمال في دائرة التكليف لا في رفع التكليف. ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجماعة الذين أبوا الإفطار في السفر. وقوله تعالى âيُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá وذم الخوارج لأنهم ضيقوا على أنفسهم..
4/ والعقلاء إنما يمدحون من يتحمل المشاق في سبيل طاعة المولى إذا كان طاعة لاما إذا نهى عنها المولى فهل يمدح العقلاء من نهاه مولاه عن دخول السوق ودخل وتحمل في ذلك المشاق لأجل دخوله ويقولون هو مطيع غاية الطاعة؟ كل هذا بعد تسليم شمول (أفضل الأعمال أحمُرها) للواجبات وعدم تخصصه بالمستحبات وإلا لخرج البحث عن التعارض فتأمل.
التاسع: إذا تعارض دليل نفي الحرج مع دليل نفي الضرر ما هو الجلي؟ وله صورتان:
الأولى: في تعارضهما عند شخص واحد.
والثاني: في تعارضهما بين شخصين.
مثال الصورة الأولى: أو إذا أراد المكلف أن يتوضأ والماء مفقود ووجدانه يسبب له العسر والحرج وإذا أراد أن يتيمم بدلاً عنه يسبب له الضرر الجسمي.. فما هو الحل؟
والظاهر عدم إمكان تقديم أحدهما على الآخر لمخالفة الامتنان فيها معاً ولزوم التناقض إلا إذا أحرز الأهم في أحدهما فيترجح على المهم وأما في غيرها فلها وجهان أحدها: التساقط والرجوع إلى الأصول العامة من العمومات أو الاطلاقات إن وجدت وإلا فالأصول العملية.
ثانيهما: التخيير لعدم رجحان أحدهما على الآخر وهو الذي يظهر من كلام سماحة السيد قدس سره في القواعد([89]).
وأما مثال الصورة الثانية: وهو مثال جمهرة من الفقهاء وهو فيما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجباً لا ضرار جاره وترك تصرفه فيه حرجاً عليه لان منع المالك عن تصرفه في ملكه كيفما يشاء أمر حرجي ويخالف سلطنة الإنسان على ماله ونفسه وعليه ففيها وجوهاً أربعة:
الأول: أن نقدم لا ضرر على لا حرج لأن لا حرج يجري في الموارد التي فيها التكليف سبب الحرج لا فيما إذا سبب إنسان حرجاً لإنسان فإن قوله تعالى âَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍá بقرينة كلمة عليكم يدل أنه ما جعل تكليفاً يلزم منه الحرج والضيق..
بينما الحرج والضرر الناشئ من أفعال العباد بعضهم لبعض فالمتكفل فيه (لا ضرر) فأن لا ضرر ولا ضرار يقول بحرمة الإضرار مطلقاً لذا يتقدم دليل لا ضرر ونحكم بعدم جواز تصرف المالك في ماله لأنه يسبب إضرار جاره ونمنعه في التصرف وإن كان يسبب له الحرج.
وفيه أولاً: لا دليل على أن الحرج مختص بالأحكام ولا يشمل أفعال العباد بعضهم لبعض. مضافاً على وجود موارد يصدق عليها الحرج الشخصي بلا ربط لأفعال العباد كالمثال الثاني فماذا تقولون.
ثانياً: أن لا ضرر أيضاً هكذا يقال بأنه وارد من جهة الأحكام الشرعية لأن لا ضرر يرفع الحكم الضرري فماذا تقولون قولوا هناك.
الثاني: أن نقول لا حرج ولا ضرر بينهما نسبة العموم من وجه لأن بعض التكاليف حرجية لا ضررية مثل المرأة في مراجعة الطبيب أو الماء إذا سبب للعبد الشين والمنة.
وقد يكون ضرراً لا حرجاً فأتلاف إنسان مال إنسان وقد يجتمعان كالوضوء الذي يسبب الشين والضرر الجسمي..
وفي موارد العموم في وجه التعارض، يحصل في مورد الاجتماع فيجب ان يلحظ الأهم والمهم ونعمل بالأهم في نظر الشارع أو المكلف وإذا تساويا ففيه قولان:
الأول: التساقط والرجوع إلى الأصل أو إلى دليل آخر.
الثاني: التخيير حيث لا دليل على تقديم أحدهما على الآخر وهو الوجه الثالث في التقسيم.
الرابع ربما يضاف لها وجهاً رابعاً مضافاً إلى ما تقدم وحاصله تقديم لا حرج وذلك لأن منع الإنسان من التصرف في ملكه مضافاً إلى حرجيته مخالف إلى قانون السلطنة وعليه فأن لا حرج يترجح بالاعتقاد بدليل آخر خصوصاً وان إضراره بالغير غير مباشر إلا أن يقال أنه تسببي عرفاً والتسبب مشمول بلا ضرر فتأمل.
وكذا الكلام فيما إذا أشترك العسر معهما في التعارض في صورة الانفراد أم الاجتماع ثلاثاً.. وقد مثل له بعض مراجع العصر([90]) قدس سره باغتسال الفتاة المحتلمة أمام أهلها بالماء الحار أن سبب الحرج وكان في اغتسالها بالماء البارد في غرفتها ضرر ألا أن الحرج كان أخف من الضرر اختارت الأول ليس بقدر يرفع الحكم عنها..
ولو انعكست الصورة اختارت الثاني.. ولو كان كلاهما شديداً يرفع الحكم فتيممت لان الغسل مما له بديل كما عرفت.
وفي صورة عدم البديل قدمت الأهم أن كان وإلا تخيرت على قول ولو كان واجبان طوليان أحدهما حرجي ولم يكن أحدهما أهم إلى حد المنع من النقيض فالمشهور تقديم الحرج أيضاً..
وقد مثل له في الأصول كما في قواعد سماحة السيد قدس سره ([91]) بما لو أضطر إلى الإفطار في اليوم الأول من شهر رمضان أو اليوم الثاني.
وللأهم بما لو اضطر إلى الإفطار في اليوم الأول أو الإفطار بقية الشهر كله.. فأنه لا أشكال في إفطار الأول.
وربما يقال بالتخيير في اضطرار إفطار أحد اليومين لأن كلاً منهما مفوّت لمصلحة ملزمة فلا فرق بينهما عند المولى. فتأمل.
ثم لا يخفى أن الضرر يتعدى إلى ما لا يرفع إلا به كالمريضة التي تضطر أن يلمسها الطبيب الأجنبي فأن رفع عنها بسبب الضرر يسري إلى الطبيب أيضاًَ.. وهل الحرج مثل الضرر أيضاً في هذه الصورة؟
قد يقال بأن القاعدة الآن هي التساوي بينهما لوحدة الدليل وعليه فلو كانت في حرج نفي شديد في عدم لمس الطبيب جاز له اللمس أيضاً وقد يقال بالعدم لان رفع الحرج شخصي ألا أن الأول أقوى.
ويتفرع على هذا التنبيه.. صورة الخطأ.. كما لو تصورت الضرر ولم يكن في الواقع ضرراً وكذا الحرج فالظاهر أنه لاشيء عليه إلا إذا كان مما قام الدليل على وجوب القضاء والإعادة.
وفي صورة العكس فأنه لم يكن أكثر من التحري وعليه فأن المسألة ترجع إلى اختلاف المباني فيه بين المشهور والأخوند ومن تبعه.
نعم إذا تصور الضرر أو الحرج وأفطر ـ في الصيام ـ ثم ظهر في النهار عدمه لزمه الإمساك.. ولو صلى جالساً متصوراً الضرر والحرج في القيام ثم ظهر عدمه في أثناء الصلاة أتم الصلاة قائماً..
وهل يجب عليه الإعادة؟ الظاهر العدم لدليل (لا تعاد الصلاة إلا من خمس)([92]).
وربما يقال بالوجوب لان تكليفه القيام في كل الركعات ولم يقم إلا أن الأول أقوى.
نعم في مثل الطهارة قد يقال بالبطلان كما لو تصور الحرج أو الضرر في الطهارة المائية فتيمم وظهر في الأثناء الخلاف.. فأنه يجب عليه الوضوء والاستيناف لان الطهارة شرط واقعي فيشمله إطلاق ((لا صلاة إلا بطهور)) حيث أن التصور لم يجعله متطهراً.. ولا يقال أن الطهارة شرط ظاهري لا واقعي بدليل البناء عليها بواسطة الأصول العملية وأصالة الطهارة.
فإنه قد يقال هذا صحيح في صورة عدم العلم بالواقع وأنه في صورة انكشافه لمكلف فلا مجال للأصول كما لا يخفى الا ان يقال بشمول ((تعادله)) إلا أن الظاهر ضعفه لأنه معارض بإطلاق ((لا صلاة إلا بطهور)) ومع العلم بعدم الطهارة لا مجال للدخول فيها ولا أتمامها فتأمل.

الحرج والضرر، ورافعية للتكليف:
 هل خوف الحرج يرفع التكليف كخوف الضرر أم لا؟ إحتمالان:
الأول: وهو الذي صرح بعض أعلام العصر بأنه كضرر في أن خوفه المستقبلي يوجب رفع الحكم فكما إذا خاف الضرر في المستقبل ارتفع الحكم كذلك حال خوف الحرج المستقبلي كما إذا خاف إن فعل كذا أن يقع في حرج رافع للحكم في المستقبل أو ضيفه وقوع أحدهما في مثل ذلك([93]).
والظاهر انه المشهور بوقوف لا حرج مساق لا ضرر في المفاد والمؤدى وعليه فربما يصح نسبه هذا إلى المشهور وإن لم أتبع أقوالهم الصريحة في ذلك.
الثاني: بالعدم بالحاظ أن الحرج أمره يدور بين الوجود والعدم لأنه حالة نفسانية كما عرفت وحيث أنّ الرفع يتعلق بالموضوع الحرجي ومع الخوف لا تحقق للموضوع.
ومنهم الأصحاب هو الفارق بين الضرر حيث قالوا بأنه حق رافع للتكليف والحرج حيث إن الخوف لا يرفع مضافا إلى وجود النص في بعض موارده كالصيام والطهارة فتأمل.
      وأما احتمال الحرج فالظاهر أنه لا معنى له لأنّه نفسي كما عرفت يدور بين الوجود والعدم.. ولا يقاس هنا بالضرر حيث أن احتماله أيضاً منجز لان عدم رفع الضرر في مورد الاحتمال لا يبقى للرفع موضوعاً فهو من السالبة بانتفاء الموضوع إذ بعد الوقوع في الضرر فإن الرفع لغوي بل مخالف للامتنان أيضاً مضافاً إلى التناقض بخلاف الحرج فتأمل.
العاشر: لا يخفى أن الحرج الرافع كالضرر ضرورة والضرورات تقدر بقدرها إلا ما علم الارتباط بين الأجزاء والشرائط أو لا يمكن التدارك.. وتوضيحه: أن الحرج قد يكون بعضياً وقد يكون كلياً والحرج البعضي لا يرفع كلي الحكم بل يرفعه بمقدار الحرج لأنه ضرورة مثلاً:
الحرج في الطواف لا يسقط عنه وجوب الحج بل يحج ويستنيب في الطواف لأنه مقدار الضرورة وكذا الأمر فيما لو اضطرت المرأة إلى الزنا -كما في قصة المرأة في عصر مولانا أمير المؤمنين عليه السلام -بسبب حاجتها إلى الماء واكتفى الزاني بالدخول قليلاً زماناً أو موضعاً فأن الضرر لم يرفع الحرمة للأطول زماناً أو الأكثر موضعاً لوضوح أن الزائد مما لا ضرر ولا حرج فيه.
نعم أذا كان للتكليف الحرجي بديلاً إضرارياً فأنه يسقط ويتعلق التكليف بالبديل.. مثلاً.
إذا كان غسل الرأس للمرأة المتمتعة موجباً للحرج الشديد دون باقي جسدها حيث أن غسل جميع الجسد مع الرأس قد يكشف أمرها إلى أهلها فتقع في المحذور أما غسل بعض الجسد فلا.
فإنه حيث أن للغسل بديل وهو اليتم فأنه يسقط عنها الغسل ويصح حكمها التيمم إذ أن الشارع لم يشرع غسلاً مبعضاً في مثل هذه الصورة ([94]).
وكذلك الحكم إذا كان التكليف ارتباطيًا في الموضوع أو الحكم فأنه يسقط التكليف من رأسك كما لو كان ترك الجماع في نهار شهر رمضان موجباً للحرج الشديد فأنه يسقط عنه الصيام.. ولا يصح أن يصوم عن المفطرات إلا الجماع لأن تركه حرجياً لما علم من ضرورة الشرع أن الشارع لم يشرع صوماً كذلك في مثل هذه الصورة([95]).
بخلاف ما إذا أمكن التدارك فأن القاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها كماً وكيفاً كما ثبت في محله إلا إذا علم من الشارع أنه لا يريد الفاقد للجزء أو الشرط الحرجي. فتأمل.
فأن وزان لا حرج وزان لا ضرر كما عرفت والضرر يقدر بقدره أيضاً. ومما تقدم ظهر أنه لو كان بعض الأفراد الطولية أو العرضية ضرورياً أو حرجياً فأنه يرتفع ذلك الفرد الضرري أو الحرجي لا سائر الأفراد.. فمثلاً.. إذا كانت الصلاة في أول الوقت حرجاً عليه ـ هذا في الطولي ـ أو كانت الصلاة في البيت حرجاً عليه ـ هذا من العرضي في قبال الصلاة في المسجد ـ فإنه ثبت عليه الصلاة في سائر الازمنة والأمكنة غير الحرجية.
ثم لا يخفى عليك أن الضرر والحرج قد يوجبان التبديل الكلي وقد يوجبان التبديل البعضي.
فالأول: كالحرج والاضطرار إلى الإفطار في نهار شهر رمضان فأنه يبدل الحكم إلى القضاء.
والثاني: كمن لا يتمكن إلا من الإتيان بثلاث ركعات فقط من الصلاة الرباعية فإنه يصليها ويجعل مكان الرابعة التسبيحات الأربع..
الحادي عشر: هل يجب على المحرج والمعسر التدارك فيما يقبله كما يقال في الضرر؟
احتمالات إلا أن الأقوى بل ظاهر الأدلة المتدارك وذلك لوجود:
أحدهما: وجوه السياق بينهُ وبين الضرر وقول بعض الفقهاء بالفرق بينها غير ظاهر الوجه كما لا يبعد وحدة الملاك بينهما ـ في الجملة ـ وثانيها: عموم دليل اليد ومن أتلف..
ثالثها: قولهم عليهم السلام ((لا يقوى حق إمرء مسلم)) ونحوه فإنه إذا ثبت أن للمحترج حق فيجب تداركه.
وتحديد قدر التداول والمقدار المتدارك به بيد أهل الخبرة كسائر الموضوعات المستنبطة ونحوها.
ولعل قوله سبحانه: âيَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْá يشمله أيضاً هذا وقد ورد في سيرته عليه السلام انه أعطى الدية لأجل إضافة خالد بن الوليد عشيرة بني جذيمة.
والظاهر أن أول من أثار المسألة السيد الشيرازي قدس سره في القواعد كما صرح به كما ان المسألة بحاجة الى مزيد تتبع([96]) ثم أن سماحته قدس سره بعض التفريعات الأخرى التي لم يتعرض لها الفقهاء كما قال منها: ما إذا كان الحرج والضرر في جسم فأن على الفاعل تداركهما ولم يستبعد جريان ذلك في الديات أيضاً إذا أورثت أضراراً ومثل له: بما إذا قطع يد إنسان وأحتاج إلى العلاج ألفي دينار فعليه الخمسمائة لدليل الدية وبقية الألفين لدليل (لا ضرر). وقد أسند ذلك بقاعدة الجمع بين الدليلين.
ومنها: ضمان الفعل فيما لو فعل بالولد قهراً بالإضافة إلى حده الشرعي وقال هو ـ حسب الملاك ـ ليس أقل من إزالة البكارة قهراً حيث الحد والأرش فتأمل([97]).
والظاهر أن ما ذكره سماحته قدس سره مبتني لصدق أدلة الضمان ونحوها عرفاً إلا أن المسألة بحاجة إلى مزيد تتبع وتحقيق كما قال سماحته.
الثاني عشر: ومما تقدم يظهر حرمة إيقاع الأمرين في الحرج أو العسر أيضاً فأنه مضافاً إلى أدلتهما الخاصة يلازمها الإيذاء ونحوه أيضاً.. ولكن هل يختص الحكم بالمسلم فقط أم يشمل الكفار أيضا؟
الظاهر الثاني ويستثنى منه الكافر الحربي لكن ينبغي التوقف فيه على القدر المتيقن منه شرعاً لا أكثر..
فأن الكافر الحربي مما لا حرمة لدمه ولا لماله أو عرضه إلا أنّه لا يجوز التمثيل به ولا تعذيبه جسدياً أو نفسياً كتسليط كلب أو سبع عليه أو تشريح يده أو رجله بالسكاكين أو حرقه بالنار أو سائر أقسام التعذيب التي كان يمارسها الظالمون بالأمس ويمارسوها اليوم. كما ذهب إلى ذلك جملة من الأعاظم بل هو المعروف من ضرورة الشرع وفتاوى الفقهاء.
بل ويظهر في سيرة المعصومين عليهم الصلاة والسلام.
وذلك لأنّ الإنسان بما هو إنسان محترم وقد كرمه الله سبحانه وفضله على كثير ممن خلق كما قال سبحانه âوَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَá([98]) وعن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ((أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))([99]) مضافاً إلى أدلة حرمة المثلة الشاملة حتى لمثل الحيوان بل والكلب العقور فما بالك بالإنسان ـ كما في قوله تعالى âفَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِá وغيرها المحمولة على ذلك.. فلا يقال: أن إباحة دم الكافر الحربي يفيد الأولوية في تعذيبه والتمثيل به.
لأنّهما موضوعان متغايران وقد أجاز الشارع الأول لحكم ومصالح، ولم يجز الثاني فإن فهمنا الملاك القطعي أو الأولوية في مورد من الموارد كالإهانة مثلاً فيها وإلا فأن اللازم العمل بالأصل وهو الحرجة.
الثالث عشر: ثم أن العسر ليس الحرج كما ليس الضرر. فأن الأول يراد منه الضيق البدني بينما الثاني فهو النفسي أما الضرر فهو النقيصة في النفس أو المال أو العرض على قول أو ضد النفع فيها على قول آخر([100]) فهو كالتعب الشديد أو ما يعتبر عنه عرفاً بالإرهاق ومن الواضح أن الشارع حتى في هذه المرتبة من الضيق لا يريدها حيث يقول سبحانه âيُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá([101]) وإنما قدم الشارع اليسر على العسر أما لأهمية اليسر وفي الثابت في البلاغة أن الموضوع الأهم يقدم في لسان المحاورات كما يقال ((زيد شاعر)) ويقال ((الشاعر زيد)) أو لأنه أحب إلى النفس من العسر.
أو لأنه المآل الذي تنتهي إليه أحكام الشريعة في السمو والارتقاء الديني والدنيوي أو لأجل إيجاد الأصل ومزيد البعض نحو تحمل الأتعاب والصعوبات فأن اليسر هو الغاية التي يريدها الشارع أو لغير ذلك من الحكم والمصالح.
وكيف كان فأن مساق العسر مساق الحرج والضرر فكما أنهما يرفعان الأحكام كذلك العسر ثم لا يخفى أن العسر الذي يرفع الحكم ضرورة وهي تقدر بقدرها أيضاً فهو كما يرفع الأصل كذلك يرفع الجزء أيضاً وعليه فان كان لهما بدل فالتكليف يتعلق بالبدل وإلا جاء بالأصل بلا جزء أو شرط أو مع مانع وما أشبه أذا كان فيها عسر.
فالوضوء العسري مثلاً مرفوع ـ في الأصل -كما أن المسح على البشرة في الشتاء القارص- الذي يسبب عسراً ـ مرفوع أيضاً إلى البدل وهو المسح على العمامة كما ورد به النص والفتوى كما في قواعد السيد ([102])قدس سره كما أن الرفع لا يختص بالأداء بل يشمل القضاء أيضاً إن كان عسراً كما يقال مثله في قضاء الجاهل صلاته وصيامه..
نعم المناقشة في رفعه للحكم الوضعي.. فأن جماعة قالوا بأن الإطلاق يقضي رفعه أيضاً كما عرفت فيما تقدم في الحرج فأنه إذا صارت على جلدة نتوءات دموية جافة ونحوها في أثر الجرح مما يستلزم رفعها العسر عليه.. فان قلنا بأن العسر يرفع النجاسة فأنه يغسلها أو يمسح عليها حسب مواضع الغسل والمسح وإن قلنا بالعدم فأن تكليفه الجبيرة حينئذ.
وبذلك يظهر أيضاً جريان الكلام في حكم ما إذا كان الماء تعسر عليه في بعض أعضاء الوضوء ـ مثلاً ـ لا كلها فهل يترك العضو العسر ويغسل سائر الأعضاء الأخرى أم يتوضأ وضوء الجبيرة؟
الظاهر الأول لأن العسر ضرورة وهي تقدر بقدرها..
وكذا الكلام في الصلاة فإنه يصلي بالنجاسة إذا كانت الإزالة عسرة عليه هذا في التكليف لكن بناء على رفع العسر للوجوب أيضاً فأنه لا نجاسة أيضاً.
ثم لا يخفى أن العسر لا يرفع الوجوب فقط بل يرفع الحرمة أيضاً كما إذا كانت المرأة في عسر بسببه
الرابع عشر: وهل يجري الرفع في المستحبات والمكروهات أيضاً؟ فيه أقوال..
الأول: العدم لأن ظاهر أدلة الرفع الإلزام كما هو قوله سبحانه âلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَá([103]) و(ما جعل عليكم) والمستحبات والمكروهات لا إلزام فيها مضافا إلى أن أدلة الرفع أمتنائية ولا امتنان في رفع المستحبات بل ربما يقال أن الامتنان في عدم رفع المستحبات لما يترتب عليها من مزيد اللطف والعناء والقرب الإلهي بل قد قامت سيرة المعصومين عليهم السلام على تحمل المشاق والصعوبات في عمل المستحبات وترك المكروهات..
وقد ورد عن بعضهم  عليهم السلام أنه كان يصلي في الليل ألف ركعة وعن بعضهم إنه يقرأ أربعين ختمة في شهر رمضان وكان الحسن عليه السلام يحج ماشياً وقد تورمت قدما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة وقوفه للعبادة ليلاً وكذا فاطمة عليه السلام إلى غير ذلك.
كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أفضل الأعمال أحمزُها)) ([104]) .
وقد المح إلى ذلك السيد الطباطبائي قدس سره في المفاتيح كما في الفقه ([105]) فقال: ((هل يجوز عقلاً أن يستحب فعل فيه مشقة عظيمة بحيث يلزم منه الحرج لو حكم بوجوبه أو لا يجوز أن يستحب مالا يتعلق بها لقدرة؟ المعتمد هو الأول لأنا لم نجد من العقل ما يقتضي امتناع ذلك بك هو قاطع بجوازه وهل الأصل عدم جواز ذلك أم لا؟
الأقرب هو الأخير لعدم دليل على الأول لا عقلاً ولا نقلاً فإن الحرج والعسر المنفيين في العمومات السابقة لا يصدقان هنا كما لا يخفى)) انتهى.
وقد أيد سماحة السيد الشيرازي قدس سره بعدم الصدق في الاقتضائيات([106]) وذلك لان الإنسان له أن يختار فعله أو تركه فلا يصدق عليه أنه حرج عليه فإذا استحبه الشرع أو فعله مكروهاً لا يقال أنه أوقعه في الحرج فالحرج منفي موضوعاً لا حكماً.
أقول وبذلك يظهر إمكان تخصيص مثل قوله تعالى âمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍá كما عرفت.
الثاني: الوجود لإطلاقات الأدلة كما في قوله سبحانه âيُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ á وقوله صلى الله عليه وآله لأبي ذر رضي الله عنه:((إنّ الله بعث عيسى بن مريم بالرهبانية، وبعثتُ بالحنيفية السمحة...)) ([107]).
ما ذكر من سيرتهم عليهم السلام فإنه أما أن يدخل في باب الجهاد ومجاهدات النفس الذي مكن بخروجه تخصصاً أو تخصيصاً أو أن الرفع رخصة وهي لا تتناف مع التعبدية وقصر القربة وإظهار مزيد من الطاعة والانقياد ـ كما يؤيده جملة من الأخبار أيضا ([108]) فتأمل.
الخامس عشر: وهل أن الإقدام على العسر والحرج كالإقدام على الضرر لا يشمله الرفع أم لا؟
فأنه قد ثبت في محله ـ من لا ضرر ـ إن الإقدام على الضرر مستثنى من الرفع كمن أقدم على غبن نفسه في معاملة غبنية فإنّه لا خيار له لأنّه اسقط حقه بالإقدام.
وحيث أنّ مساق العسر والحرج مساق لا ضرر- في الجملة ([109])- فانه ربما يمكن القول بعدم رفعهما للحكم حينئذ.. فمثلاً من ترك الصلاة والصيام مدة طويلة من عمره حتى بات قضاؤهما عليه عسر وحرج لا يسقط عنه وجوب القضاء لأنه سبب لنفسه ذلك.. نعم يخرج منه الجاهل القاصر لإطلاقات أدلة الرفع للعسر والحرج الحاكمة على الأدلة الأولية التي أدلة القضاء منها([110]).
والظاهر إمكان القول بشمول حكم السقوط لما بعد موته أيضاً لأن التكليف المنتفي عنه في حال القصور لا دليل على ثبوته بعد موته.
ويحتمل وجوب القضاء من تركته وهو أقرب إلى المذاق الفقهي والاحتياط ألا أنه أبعد عن الأدلة صناعة فتأمل.
وربما يمكن ألحاق الجاهل المقتصر به أيضاً لوحدة المساق مع لا ضرر فأن من ألحق بنفسه الضرر تقصيراً فصلى بتيمم أو عن قصور فأنه وان كان عاص بترك التعلم إلا أنه لا قضاء عليه ومثل ترك الصلاة مع طهارة باطلة قصوراً أو حج حجاً باطلاً كذلك وكان الإتيان به عسراً عليه.. ولعل مما يؤيده أو يدل على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) والظاهر أن المسألة من المستحدثات التي لم يتعرض لها الفقهاء كما صرح به سماحة السيد قدس سره إلا تلميذ شريف العلماء في حقائقه([111]) هذا وربما يقال بأن عدم الرفع مخالف للامتنان إلا أنه يمكن أن يقال بأن المكلف بإقدامه على العسر والحرج قد أخرج نفسه من الرحمة وسبب لنفسه المشقة ـ فتأمل.
موارد اليسر في الشريعة الإسلامية:
هناك بعض الموارد التي خفف فيها الشارع أحكامه عن المكلفين أما من جهة التيسير ومصالح التسهيل امتناناً.. إقتداءً بالشهيد (رضوان الله عليه) في قواعده والنراقي قدس سره في عوائده ـ الذي تبعه في ذلك ـ والمراغي قدس سره في عناوينه حيث أوردوا جملة فروع القاعدة بمعناها الأعم الشامل لنفي المشقة أو التخفيف.. وهي وان كانت من مهمات كتب الفقه لا القواعد الفقهية إلا إنا نذكرها تيمنا بما أورده وشحذاً لأذهان بعض الأفاضل بمصاديق القاعدة وتذكيراً لبعضهم الآخر ببعض الأحكام وتكثيراً للفائدة قال الشهيد (طاب ثراه): أن المشقة موجبة لليسر وهذه القاعدة يعود إليها جميع رخص الشارع.. كأكل الميتة في المخمصة، ومخالفة الحق للتقية عند الخوف على النفس أو البضع أو المال أو القريب أو بعض المؤمنين، بل يجوز إظهار كلمة الكفر عند التقية.
ومن القاعدة: شرعية التيمم عند خوف التلف من استعمال الماء أو الشين أو تلف حيوانه أو ماله.
ومنها: إبدال القيام عند التعذر في الفريضة، ومطلقاً في النافلة وصلاة الاحتياط غالبا ـ ومنها قصر الصلاة والصوم.
ومنها: المسح على الرأس والرجلين بأقل مسمّاة، ومن ثم أبيح الفطر جميع الليل بعد أن كان حراماً بعد النوم.
ومن الرخص ما يختص، كرخص السفر والمرض والإكراه والتقية. ومنها ما يعم، كالقعود في النافلة، وإباحة الميتة عند المخمصة تم عندنا في السفر والحضر.
ومن رخص السفر: ترك الجمعة، وسقوط القسم بين الزوجات لو تركهن، بمعنى عدم القضاء بعد عوده، وسقوط القضاء للمتخلفات لو استصحب بعضهن.
ومن رخص: إباحة كثير من محظورات الإحرام مع الفدية، وإباحة الفطر للحامل والمرضع والشيخ والشيخة وذي العطاش، والتداوي بالنجسات والمحرمات عند الاضطرار، وشراب الخمر لإساغة اللقمة، وإباحة الفطر عند الإكراه عليه مع عدم القضاء. ولو أكره على الكلام في الصلاة فوجهان.
ومنه: الاستنابة في الحج للمعضوب، والمريض الميؤوس من برئه، وخائف العدو، والجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض والوحل والأعذار بغير كراهية.
ومنه: إباحة نظر المخطوبة المجيبة، وإباحة أكل مال الغير مع بذل القيمة مع الإمكان، ولا معها مع عدمه عند الإشراف على الهلال.
ومنه: العفو عما لا تتم الصلاة فيه منفرداً مع نجاسته، وعن دم القروح والجروح التي لا يرقى.
ثم التخفيف قد يكون لا الى بدل، كقصر الصلاة، وترك الجمعة، وصلاة المريض، وقد يكون إلى بدل، كفدية الصائم، وبعض الناسكين في بعض المناسك.
والرخصة قد تجب، كتناول الميتة عند خوف الهلاك وقصر الصلاة والصيام، أو تستحب، كنظر المخطوبة، وقد تباح، كالقصر في الأماكن الأربعة.
والضابط في المشقة: ما قدره الشرع، وقد أباح الشرع حلق المحرم للقمل، كما في قضية كعب بن عجرة، وأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمراً على التيمم لخوف البرد، فليقاربها المشاق في باقي محظورات الإحرام، وباقي مسوغات التيمم، وليس مضبوطا ذلك بالعجز الكلي، بل بما فيه تضييق على   النفس.
ومن ثم قصرت الصلاة وأبيح الفطر في السفر، ولا كثير مشقة فيه ولا عجز غالباً، فحينئذ يجوز الجلوس في الصلاة مع مشقة القيام وإن أمكن تحمله على عسر شديد، وكذا باقي مراتبه.
ويقع التخفيف في العقود، كما يقع في العبادات. ومراتب الغرر فيها ثلاث:
إحداها: ما يسهل اجتنابه، كبيع الملاقيح، وهذا لا تخفيف فيه.
وثانيها: ما يعسر اجتنابها وإن أمكن تحمله بمشقة، كبيع البيض في قشره، وبيع الجرار وفيه الأس، وهذا يعفى عنه تخفيفاً.
وثالثها: ما يتوسط بينهما، كبيع الجوز واللوز في القشر الأعلى، والأعيان الغائبة بالوصف.
ومنه: الاكتفاء بظاهر الصبرة المتماثلة. ومن التخفيف: شرعية خيار المجلس. ومنه: شرعية المزارعة، والمساقاة، والقراض وإن كانت معاملة على معدوم.
ومنه: إجارة الأعيان، فإن المنافع معدومة حال العقد.
ومنه: جواز تزويج المرأة من غير نظر ووصف، دفعاً للمشقة اللاحقة للأقارب.
ومن ذلك: شرعية الطلاق والخلع، دفعاً لمشقة المقام على الشقاق وسوء الأخلاق، وشرعية الرجعة في العدة غالباً ليتروى، ولم تشرع في الزيادة على المرتين دفعاً للمشقة عن الزوجات.
ومنه: شرعية الكفارة في الظهار، والحنث.
ومنه: التخفيف عن الرقيق بسقوط كثير من العبادات.
ومنه: شرعية الدية بدلاً عن القصاص مع التراضي، كما قال الله تعالى: âذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ([112])á([113]).
كما أورده المراغي جملة من الفروع الأخرى منها:
عدم نجاسة البئر بالملاقاة، والعفو عن دم الجرح والقرح الذي لا يرقى، وعن ما دون البغلي وثوب المربية للصبّي، وعن نجاسة ما لا يتم الصلاة به، ومطهرية الأرض، وطهارة آلات البئر ـ مثلاً ـ كالعصير([114]) ورخصة المبطلون ومن بحكمه، وعدم لزوم الاحتياط والاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة، وطهارة المخالفين وحل ذبيحتهم([115])، وعدم لزوم الصيغة في كلّ معاملة، وصحّة بيع الصبيّ فيما جرت به العادة، وعدم لزوم التحرّز عمّا ينفصل من البدن من الأجزاء الصغار، وعدم انفعال العالي، والرخصة لكثير الشكّ، وجواز التيممّ للمتضّرر بالماء، وطهارة ماء الاستنجاء وعرق الجنب من الحرام، وعدم لزوم الخمس في الهبات والميراث والزكاة في المعلوفة، وعدم لزوم الترتيب في القضاء، وعدم لزوم العلم بصحة أفعال الناس، وقبول قول الدعيّ في الردّ، وعدم اعتبار الشك بعد الفراغ، ومشروعية القرعة، وجواز الوكالات والنيابات، وإباحة ما يغلب عليه الحاجة، وجواز أخذ الأجرة على الصنائع، وحل النظر إلى المحارم، وشرع التقية، وعدم لزوم الكيل والوزن في النقود في وجهٍ، وشرعية التوبة، والقصر في السفر، وعدم لزوم قضاء الصلاة على الحائض، وإباحة الإفطار للحامل والمرضع والشيخين ([116]) وذي العطاش، والعفو عن اختبار ما يعسر اختباره في البيع، وشرعية الخيارات والطلاق والرجعة، وشرعية الكفارات والديات، وإباحة المحظورات عند الضرورات، والرخصة في الأكل عن البيوت المخصوصة وفي الأنهار المملوكة والأراضي المتسعة وللزوجة في مال زوجها، وفي قطع الصلاة لأمورٍ، وعدم بطلان عبادة من عليه دين ([117]).
الهوامش:

--------------------------------------------------------------------------------
(*) أستاذ بحث خارج، كربلاء المقدسة، العراق.

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) عوائد الأيام/ عائدة 19، ص172.
([2]) المائدة، الآية: 6.
([3]) الكافي، ج3، ح4، ص30، والوسائل ج2، الباب 3، ص980.
([4]) النساء، الآية: 65.
([5]) الأنعام، الآية: 125.
([6]) الكافي، ص111.
([7]) الصحاح، ج1، ص305.
([8]) القاموس المحيط، ج1، ص189.
([9]) النهاية لأبن الأثير، ج1، ص361.
([10]) الحج، الآية: 78.
([11]) مجمع البحرين، ج2، ص288.
([12]) المفردات، ص346.
([13]) النهاية لأبن الأثير، ج3، ص235.
([14]) مجمع البحرين، ج3، ص402.
([15]) عوائد الأيام، عائدة 19، ص184.
([16]) المكارم، ص160.
([17]) الاحتجاج، ج1، ص222.
([18]) الكافي، ج1، ص160، باب الجبر والقدر، ج4.
([19]) الخصال، ج2، ص417، باب التسعة، ج9.
([20]) الكافي، ج6، ج10، ص528.
([21]) الحديد، آية: 13.
([22]) الحج، آية: 78.
([23]) البقرة، آية: 185.
([24]) البقرة، آية: 185.
([25]) البقرة، آية: 286.
([26]) القواعد الفقهية، ص86.
([27]) الطلاق، آية: 7.
([28]) البقرة، آية: 286.
([29]) راجع النراقي ومكارم.
([30]) البقرة، آية: 61.
([31]) الوسائل، ج5، ج1، ص246
([32]) البحار، ج57، ص46، العلامة المجلسي.
([33]) المصدر السابق، ج2، ص281، باب 23.
([34]) البقرة آية، 286.
([35]) البقرة، آية 184.
([36]) راجع مكارم والنراقي، ص166 والبجنوري، ص209 فما بعد...
([37]) الوسائل، الباب 9، من أبواب الماء المطلق، ج14.
([38]) الحج، آية: 78.
([39]) الوسائل، الباب 39 من أبواب الوضوء، ج5.
([40]) راجع الرسائل، باب حجية الظواهر.
([41]) وسائل، باب 38 من أبواب الوضوء، ج4.
([42]) وفي الرواية بحوث راجع فيها مكارم، ص169 إلى ص171.
([43]) الوسائل، الباب 50 من أبواب النجاسات، ج3
([44]) أصول الكافي ج1، ص164/ط الجديدة.
([45]) الكافي/ج5، ص280/ج4.
([46]) راجع الكافي، ج5، ص494/ج1، وفيه (يعثني)..
([47]) القواعد الفقهية، ص84.
([48]) العناوين، ص286.
([49]) العوائد/ العائدة 19.
([50]) الفقه المرور/ غير مطبوع/ ص21.
([51]) المصدر نفسه.
([52]) المصدر نفسه.
([53]) المصدر نفسه.
([54]) المصدر نفسه.
([55]) عوائد الأيام، ص57.
([56]) العوائد، ص174.
([57]) القواعد، ص84.
([58]) مكارم/ ص182.
([59]) راجع مكارم ونصه عن الجواهر، ص182.
([60]) العروة الوثقى، ج2، ص170، مسوغات التيمم، السيد اليزدي.
([61]) منهم الشيرازي في القواعد الفقهية، ص84.
([62]) راجع ذلك في القواعد الفقهية الشيرازي ص85.
([63]) البنجوردي، ص214.
([64]) راجع البنجوردي، ص215، ومكارم، ص58 لا ضرر.
([65]) البنجوردي، ص264.
([66]) القواعد الفقهية، ص95.
([67]) مثل: (لا ضرر) و(الأهم والمهم) و(التقية) ونحوها.
([68]) البقرة، آية 229.
([69]) عوائد الأيام/ عائدة 19، ص187 ـ ص188.
([70]) عوائد الأيام/ عائدة 19، ص187.
([71]) الفصول المهمة، ص249.
([72]) عوائد الأيام/ عائدة19/ ص188 عن فوائد الأصول/ فائدة 36/ص118.
([73]) قوانين الأصول/ج2/ص49، ص50 والعناوين، ج1، ص294.
([74]) راجع المصدرين السابقين، والعوائد، عائدة 19، ص189 ـ 190، بتصرف قليل.
([75]) العناوين، ج1، ص294.
([76]) وقد وضح ذلك السيد المراغي في العناوين قائلا: إنا نرى بالعيان أن المولى إذا أمر عبده بالحضور في خدمته كل يوم ثلاث مرات - مثلاً - وأمره بالإعطاء إلى الفقراء عشراً مما أعطاه مولاه، وأمره ـ مثلاً ـ فترة قليلة بالإمساك عن اللذائذ في كل سنة، وأمره في مدّة عمره مرة بالذهاب إلى بلد بعيد لقضاء حوائج لمولاه في تلك البلاد صح إعداد أسباب سفره وإعطائه إياه ما يحتاج إليه في طريقه على حسب شأنه وحاله، وجعل له في كلّ ما يحتاج إليه من مقتضيات نفسه ـ من أكل وشرب ولبس ونكاح ونحوه ـ من أصل ماله ما يرفع حاجته، بل زاده سعة في ذلك، ومنعة عن التعرض لأموال الناس والخيانة في أعراضهم وأنفسهم، وأغناه بعطائه عن التعرض لذلك كله، وأمره بالمعاشرة مع العبيد بالمعروف بحث لا يترتب عليه الفساد، وأمر بدفع من كان عدواً له ولمولاه مع إمكانه،لا يعد هذا عسراً وحرجاً بالنسبة إلى ذلك العبد، وكيف يكون ذلك حرجاً مع أن هذه الطريقة طريقة أحسن الناس نفساً ورتبة وعليه عادة الناس خلفاً وسلفا.بالنسبة إلى أحبائهم وعشائرهم؟ وكيف يُعدّ إتيان مثل هذه الأشياء حرجاً إذا أمر به الحكيم على الأطلاق، ولا يعدّ حرجاً بالنسبة إلى الخلق المحتاج بعضهم لبعض؟
وإنا نرى أن المقدسين المتعبدين بهذا الشرع يباشرون هذه التكاليف ويزيدون عليه من المندوبات إلى ما شاء الله، ومع ذلك هم في قيامهم وقعودهم ومعاشرتهم مع الناس وتزينهم بما أحلَّ الله لهم من الطيبات على أحسن حال وأكمل رفاهية.
ولو كان هذا من الضيق والحرج لعمَّ سائر الناس، فإنّ الضيق معنى معروف عرفاً، مضافاً إلى أنّ عوام أهل الشريعة قد رسخ في أذهانهم أن هذه الشريعة أسهل ما يكون من الأعمال بحيث لو فعل هذه الخدمات كلّلها عبد لمولاه ـ بل صديق لصديقه ـ ما يفدّ في نظرهم مثل هذه الأشياء خدمة وإظهار إخلاص، فكيف في عبادة الرب الكريم؟!
([77]) القواعد والفوائد، ج1، ص123، وعوائد الأيام، العائدة 19، ص202.
([78]) البجنوردي، ص213.
([79]) فوائد مكارم، ص194.
([80]) العوائد، عائدة 19، ص185 ـ 186.
([81]) أنظر الفصول المهمة، ص249.
([82]) لاحتمال أن يكون المراد من (يريد بكم اليسر) علة لرفع الوجوب في أيام المرض والسفر لا لبيان أنها في أيام الصحة والحضر ليست عسرة. فتأمل..
([83]) الأحزاب، الآية: 10.
([84]) راجع العناوين، ج1، ص298 ـ 299، وقد تصرفنا في عباراته تقديماً وتأخيراً لضرورة ترتيب المضمون.
([85]) راجع العناوين، ج1، ص299 ـ 300.
([86]) القيامة، آية 13.
([87]) مكارم، ص202.
([88]) راجع الوسائل، باب 22، من أبواب صلاة القصر، المجلد الأول.
([89]) القواعد الفقهية، ص91، السيد الشيرازي.
([90])المصدر السابق.
([91]) المصدر السابق.
([92]) المستدرك، ج5، ص13، ج252، باب 5.
([93]) راجع القواعد الفقهية، الشيرازي، ص88.
([94]) لإخراج غسل الجبيرة وضوئها على قول..
([95]) لإخراج صوم ذي العطاش ونحوه.
([96]) القواعد الفقهية، السيد الشيرازي ص93.
([97]) المصدر السابق.
([98]) الإسراء، آية 70.
([99]) نهج البلاغة، كتاب 53.
([100]) وقد فصلنا البحث في ذلك في قاعدة لا ضرر فراجع.
([101]) البقرة، آية 185.
([102]) القواعد الفقهية، ص149.
([103]) البقرة، آية 185.
([104]) بحار الأنوار، ج67، ص191.
([105]) الفقه المرور، ص35.
([106])المصدر السابق.
([107]) الوسائل، ج5، ص246، ج1.
([108]) كالروايات التي تتضمن (من إراق ماء وجهه في سبيل الله فله كذا) وغيرها.
([109]) ربما لاخراج مثل نكاح الفتاة متعة ونحوها.
([110]) كما في قولهم (عليهم السلام): (ما فاتك من فريضة فاقضها كما فاتتك) المستدرك/ ج6 ص435، ج7167/ باب 6.
([111]) القواعد الفقهية ص148.
([112]) البقرة آية2، ص178.
([113]) القواعد والفرائد 1: ص123.
([114]) أي: أواني العصير إذا ذهب ثلثاه، على القول بالنجاسة..
([115]) بل والكفار وعلى أي جمع من المعاصرين.
([116]) أي الشيخ أو الشيخة.
([117]) العناوين ج1، ص297 ـ 298.

هناك تعليق واحد: